مستقبل جامعة القرويين (دعوة الحق)



مستقبل جامعة القرويين

  دعوة الحق
العددان 78 و79
    تشعر بالفخر والاعتزاز حين تتكلم عن (جامعة القرويين) التاريخية التي دوى اسمها عبر القرون حافلا بالأمجاد والمفاخر، وتستمد من سجلها الحافل بأعلام الفكر في الفلسفة والعلوم اللاهوتية والقانونية والأدبية، أن بلادنا عريقة في الحضارة الفكرية وأننا لسنا في تجربة أولية، وإنما نحن في استمرار أداء الرسالة. ولكن كم يتساءل الكثير من الباحثين عن القرويين اليوم أين يوجد مركز إشعاعها؟ هل هي المسجد الذي ينتظم فيه المسلمون لأداء الصلوات؟ أم هي هذه المعاهد والمؤسسات المتفرقة في أماكن متعددة وعواصم مختلفة، وأين توجد ثقافتها؟ هل في الأوراق والمخطوطات؟ أم في عقول العلماء الذين يؤخذ العلم من أفواههم؟ أم في جماعة من الطلاب الباحثين عن المعرفة حسب مناهج علمائها الكبار، أم في الأجهزة التربوية والإدارة التي تسير البلاد؟.
    ثم يتساءل عن دور القرويين اليوم، أهو في تكوين أطروحة للبلاد الإسلامية، أم تكوين ثقافة (محافظة) لاستمرار وجود هذه المؤسسة الخالدة؟ قد لا نجد أجوبة مدققة، ونقتنع بأجوبة غامضة غير حاسمة، ولكن مما لا شك فيه أنها أسئلة تدل على وجود (غموض) في واقع هذه المؤسسة اليوم، وإذا كان يسرنا ذكر (أمجاد) القرويين، فإن وضعيتها اليوم حقيقة أن تثير أسئلة دقيقة وتجعلنا أكثر بحثا عن واقعها ومستقبلها.
    ومهما يكن فليس في وسع واحد منا أن يتنازل عن القرويين كأعظم بناء ثقافي تاريخي في بلادنا، وهو في مستوى (أزهر) القاهرة و(اكسفورد) إنجلترا و(سربون) فرنسا، ولكن لا يمكن بحال من الأحوال أن نغالط أنفسنا فنزعم أن دور جامعتنا في هذا العصر يساير رسالتها الماضية وأنها تساير العصر الحديث بمرونة تجعلها دائما تحتل مكان الصدارة كما كانت في الماضي العريق.
    وليس في وسعنا كمسلمين أن نتنازل عن (القرويين) لأنها رمز استمرار الإسلام في بلادنا وفي القارة الإفريقية المسلمة ويكفي أن أذكر مثالا بذلك أن البابا في روما لم يبعد قط (كرسيه) عن (الفاتيكان) التي تعتبر رمز استمرار الحضارة المسيحية في روما رغم العواصف التي قصفت في سماء ذلك المركز التاريخي لأن البناء التاريخي رمز للاستمرار، ويخيل إلى أن التنازل عنه خطورة ينطوي على نكبة عظمى ولا يمكن التنازل عنه إلا إذا تنازلنا عن مقدساتنا وعندئذ –لا قدر الله- سنبحث عن مقدسات وإيديولوجيات أخرى، وهذا ما يريده أعداؤنا وأعداء حضارتنا الإسلامية التي ستصان بقوة الله التي لا تقهر وعملنا المتواصل الخلاق المستمد من عنايته تعالى بنا.
    فالقرويين هي مركز الفكر الإسلامي، ومأوى التراث الإسلامي أيضا، فيها يدرس الإسلام ومنها ينشر، وهي الجهاز اللاقط والمرسل الذي يوجه الأشعة لكل البلاد المسلمة، وما تزال القرويين عاملة على فهم الإسلام في روحه المتطورة الجذابة وصقل أداة التعبير عن الفكر الإسلامي، وبالتالي هي الجهاز الذي يغذي الحضارة الإنسانية من الوجهة الروحية.
    وهي في نفس الوقت أداة السمو بالآداب العربية، ومعمل تكوين المختصين في الدراسات الإسلامية، فصلتها قوية بالمجتمع والحضارة والتاريخ، لذلك فهي أداة خلق وابتكار وتكوين إطارات لعصرنا الحاضر، وهي أداة اتصال بالجماعات الإنسانية للمحافظة على مكاسبها الروحية الجذابة.
    ولن تكون القرويين، ذات إطار تاريخي وصورة حية، إلا إذا فهمت رسالتها بوعي ووضوح، كما أن خلود القرويين يستلزم المحافظة على روحها ورسالتها وستلزم في نفس الوقت الوعي الدقيق لرسالة العالم الإسلامي في هذا العصر.
    لقد صدر ظهير لتنظيم جامعة القرويين وبعبارة أدق أعطيت القرويين فرصة تكوين إطار حي، ولن تعطينا الأجهزة التشريعية أعظم من ذلك، فماذا حققنا للقرويين من خطوات عميقة لأداء رسالتها؟ أو ما هي الصورة التي يشملها هذا الإطار الذي يعطينا وجها لمستقبل المغرب المسلم؟، ولعل من الأغراق في المأساة أن نتنصل عن مواجهة الحقائق وجها لوجه، فنلقي التبعة على جهة دون أخرى، لأن تطوير القرويين وإحيائها يستلزم حيوية عناصر أربع :
    1) العنصر الإداري المسير.
    2) العنصر التعليمي المكون "بالكسرة".
    3) العنصر التعليمي المكون "بالفتح".
    4) مجال الحيوية.
    ولنضع على أساس ذلك الخطوط الرئيسية التي تسهل لنا مهمة القرويين كجامعة حية جديدة بماضيها ورسالتها التي تبغلها لا محالة. وأن جميع المفكرين المغاربة ليشعرون بمدى وجوب أحياء هذه الجامعة العظيمة، ولذلك نقدم مختلف الهيئات عدة حلول، غير أن معظم هذه الحلول تنقصها النظرة الشمولية لواقع القرويين.
    فهل يكون كافيا أن تتقدم هيئات بمقترحات إصلاحية، ينقصها الوعي الدقيق للجزئيات التي لا يمكن فصلها عن هيكل الموضوع؟ وهل يكون كافيا أن نلتقي في مؤتمرات وندوات ثم نفترق وقد اختلفنا أيادي سبا؟ وهل يكون كافيا أن نلقي مقترحات، ونلقي الأشعة على مشاكل لا نعطي لها حلولا؟.
    إن الموضوع أخطر مما نتصور، ذلك لأن القرويين هي رمز حضارة الأمة الإسلامية وهي مطمح بناء مستقبلها، لذلك يجب البحث بدقة عن مدلول التراث الحضاري الإسلامي، وتطويره ويستلزم بنظرياته، وتلقيحه بمعطيات الفكر الحديث المساير للتطور الحضاري السريع في كل مجالات الفكر الإنساني، وهذا يتطلب اطلاعا واسعا على ما ينبض به الفكر في الشرق العربي وما جاءت به حضارتنا العريقة من آراء ونظريات في مختلف شعب المعرفة.
    إن القرويين مؤسسة تاريخية معاصرة ذات تراث عريق ورسالة خاصة لذلك يجب أن تتغدى في قمتها من عناصر ملقحة على أسس تناسب وما تعهدهم له، لتعطي جماع طاقتها في قمة الهرم، وبما أنها تتوفر على تراث فيجب أن يهتم بإصلاحه ومناقشته وإذاعته، وبما أن لها رسالة فيجب أن تكون محددة المدلول واضحة الهدف.
    هكذا تترامى معالم قضية (القرويين) اليوم، هي شيء لا بد منه لحياة المغرب المسلم وهي شيء يجب أن تتضافر كل الجهود لإنقاذه وإحيائه ماديا وأدبيا.
    وليس من الغلو في شيء أن نلاحظ هذه الحيرة مرتمة على ملامح وجوه طلاب المدرسة الغربية الذين يريدون أن يروا القرويين كما رأوا معاهد الغرب، فهم بذلك يظلمون القرويين ويظلمون أنفسهم، يظلمون القرويين لأنهم يريدون أن يعطوا (للأطلس) شخصية جبال (الألب) أي يعطون للقرويين شخصية غير شخصيتها، ويظلمون أنفسهم لأنهم لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن حقيقة الثقافة الإسلامية التي تنزعها القرويين، أو بعبارة أدق، دور القرويين الفعال في توجيه المغرب والعالم الإسلامي، وبذلك سيظلون بعداء عن واقع المغرب الذي لن ينفصلوا عنه مهما خيل لهم أنهم يستطيعون الانفصال عنه.
    كما أن من الواجب أن نؤكد أن طلاب هذه الجامعة يستشعرون عظيم مسؤوليتهم حيث يجب أن يلتحقوا بالركب الحضاري لاهثين مهما كلفهم ذلك من عناء، وأن إيمانهم بالثقافة الإسلامية لا يمكن أن يجازى إلا أن نكون جميعا مدنة هاته الثقافة التي كادت أن تحتط في عهد الحماية البغيض، وما تزال الآن غير قادرة لا على مناهضة خصومها بقوة رغم كفاءتها وأعني بخصومها، خصوم ثقافتها من رجال الفكر العادي الغربي، ولو كانت الخصومة غير مباشرة.
    والمسألة ليست قضية احتجاج، ولكنها قضية عمل مستمر لتطوير لغة عظيمة، وتلقيح فكر جبار، وإغناء الثقافة بمختلف فروع المعرفة، في ميدان الدراسة اللاهوتية والأخلاقية والفلسفية، واللسانية، والأدبية، في الشعر والقصة والمسرحية، وفي ميدان (العلوم) التي نشعر جميعا أن التخلف سيظل مستمرا إذا لم نتجاوز جهودنا في اللحاق بركب الحضارة السريع العدو.
    وهذا دور (القرويين) محافظة عن التراث والشخصية، وأداء لرسالة العروبة والإسلام، وإسهام فعال في خلق الحضارة الإنسانية، وخلق مستمر للشخصية المغربية المهددة، تلك الشخصية المستمدة في ماضينا الإسلامي وحاضرنا الجديد المهدد بإيدلوجيات مختلفة سهلة الإدراك.
    لذلك يجوز أن نتساءل –وقد وضحت للقرويين رسالتها- عن هذه الكتب الجديدة التي تطالعنا بها الفلسفة الإسلامية المعاصرة، ورد الشبهات التي تثيرها المذاهب الحديثة، كما فعل الإمام الغزالي وابن تيمية وابن القيم وجمال الدين الأفغاني ومحمد إقبال ومحمد عبده والشيخ كنون والشيخ شعيب الدكالي.
    وماذا قدم المهتمون بالدراسات الأدبية من أبحاث لغوية وأدبية وتاريخية.
    إن من الواجب أن يكون لهذه الكتب إسهام في بناء الحضارة الروحية في القرن العشرين، كما أسهم علماء القرويين في القرون الماضية بتلك الآثار الجليلة التي يعبر إحصاؤها.
    ولست أريد أن أحمل مسؤولية الركود أحدا من الناس، فالمسؤولية إذن عامة، ولكن المشكلة ستظل قائمة، ولن يلتمس التاريخ لنا عذرا.
    إن (القرويين) مرت بمحنة المحاربة والإهمال في عهد الحماية البغيض، وقد أخذت تشق طريقها بعد الاستقلال، ولا يجوز أن ننكر أنها منذ عشر سنوات خطت موفقة حينا ومرتبكة حينا، خطوات لا ينكرها إلا المكابرون، فلم تكن قبل الاستقلال تتمتع بشخصية إدارية، وإنما كانت تصارع بشعبيتها وإيمان المغاربة بها، وكانت في نفس الوقت تشكو نقصا فادحا في أطر الإدارة  والأساتذة والتجهيز والتسيير، بل لا نبالغ إذا قلنا أنها كانت تعيش بدون أطر إدارية، ولم تكن الدراسة بها إلا في حلقات مبعثرة في أساطين المسجد، وقد يظن أحد أن هذه هي تقاليدها الدراسية ولكن الواقع أن وجود مؤسسات عصرية بجانبها تستوعب طلابا وتلاميذ يتلقون تربية وتعلما عصريا كان عاملا قويا على تفويض صرح الدراسة العلمية بها، وإبعاد عناصر من خيرة الطلاب والأساتذة عن الارتواء من معينها، حتى أصبحت لا يدرس بها إلا العلوم الدينية فقط بعد أن كانت هذه العلوم نفسها تشمل الدراسات العلمية بها.
    ولكن مع ذلك فقد كانت القرويين تتحلى مقاومة الاستعمار، فيبلور ذلك كيانها وشخصيتها، وعند إعلان الاستقلال بدت القرويين تخط طريقها مارة بتجربة جديدة وخطيرة أيضا.
    وذلك لأن جامعات العالم الإسلامي مرت بتجارب متعددة، فهناك تجربة، (الأزهر) وهناك تجربة (الزيتون)، وهناك تجربة (دمشق) وأخيرا تجربة جامعة الهند ... فما هو الخطط الذي سارت عليه القرويين؟ وما هي مكاسبها ثم ما هي الطريق التي يجب أن تنهجها بين هذه التجارب المتعددة وما ذا عليها أن تستفيد من تجارب غيرها.

    الألمعية العربية قال صاحب كتاب "مفتاح العلوم" :
    "العرب لا يبارون قوة ذكاء، وإصابة حدس، وحدة المعية، وصدق فراسة، يخبرون عن الغائب بقوة ذكائهم كأن قد شاهدوه، ويصف لهم الحدس الصائب حال الورد قبل أن يردوه، ويثبتون أبعد شيء بحدة المعيتهم كان ليس ببعيد، وينظم لهم المجهول صدق فراستهم في سلك المعروف  منذ زمان مديد".

    0 commentaires:

    إرسال تعليق