0

الإشعاع العلمي في القرويين جامعا وجامعة (دعوة الحق)



الإشعاع العلمي في القرويين جامعا وجامعة

  عبد الحميد محيي الدين
العدد 364 ذو الحجة 1422/فبراير 2002 دعوة الحق
    لم يعرف التاريخ الإنساني مؤسسة استقطبت اهتمام المفكرين مثل "القرويين" يستوي في ذلك مفكرو القديم والحديث، ولعل مصدر هذا الاهتمام هو أن القرويين، جامعا وجامعة، نهضت منذ ـن انتشر الإسلام، ولغته العربية في المغرب والأندلس والقيروان، فتسنى "للقرويين""بفاس" أن ترث ما كانت تزخر به هذه البلاد، التي ينتظمها في حكم سياسي واحد، وهذا أمر طبيعي، لأنه إذا "جامع القرويين" قد قام بوظيفته الدينية عبر العصور، فإن مساجد "الأندلس" و"تونس" وغيرهما في الغرب الإسلامي، قد نهضت بالمهمة ذاتها، المتمثلة في الإشعاع العلمي والفكري، إذ اتخذها العلماء والفقهاء واللغويون مراكز للبحث والتدريس، فتطورت رسالة المسجد والجامع لتصبح، علاوة على مهمتها الأساس، أماكن للدراسة والتعليم، يلتقي فيها المسلمون على اختلاف مواطنهم ولغاتهم، قصد العبادة وتلقي المعرفة.
    على هذا الأساس ظهر "جامع القرويين" في عهد "الأدارسة"، ليصبح مكانا للعبادة، ومركزا للإشعاع العلمي والثقافي والحضاري، وأتيح له أن يتفرد بنتائج هذا الإشعاع، وذلك بفضل الهجرة التي قام بها علماء كبار، جاءوا إليه من حواضر المعرفة والثقافة، ‘ذ قدم إليه علماء إحدى عواصم العلم آنذاك "قرطبة" حين ضاق بهم المقام، نتيجة سياسة الأمويين هناك، فأصبحوا أساتذة بالقرويين، وساهموا في هذا الإشعاع، وقدموا لطلبة العلم عطاءهم الغزير، ثم انضاف إليهم نظراؤهم القادمون من "تونس" إثر الأزمة التي حلت "بالأغالبة" حكام المغرب الأوسط، فوجدوا كذلك ما يدعو في "القرويين" إلى المساهمة في هذا الإشعاع العلمي، باعتبار أن مدينة فاس بيئة منفتحة قابلة لكل عطاء فكري، وباعتبار أن مدينة فاس بيئة منفتحة قابلة لكل عطاء فكري، وباعتبارها بوثقة تنصهر فيها الثقافات والمعارف، ثم يتولى جامع القرويين هضمه وتصديره إلى العالم، حتى "أوروبا" و"إفريقيا"، الأمر الذي أهل الجامع ليصبح "جامع إسلامية عالمية"، فلا غرو إذن أن ينهل من معينها أمثال الأسقف "جيربير GERBERT" الذي اعتلى مركز البابوية آخر القرن الميلادي العاشر/ القرن الرابع الهجري، فقد درس في القرويين أيام كانت أوروبا تعيش عصورها المظلمة، ومما يذكر هنا أن "جامع القرويين" عرف النور، قبل "جامع الأزهر" في مصر بحوالي قرن؛ فقد تأسس أواسط القرن الهجري الثالث، لكن نشاطه الجامعي لم يعرف النور إلا في القرن الخامس الهجري، ومن ثم ساد عند المؤرخين المسلمين والأجانب، أن جامعة القرويين أقدم مؤسسة عليا في التاريخ الإنساني، وأن العلوم والفنون والآداب جميعها كانت تدرس بها؛ وقد واكب هذا الإشعاع العلمي ازدهار تدريس "الطب في العهد العباسي"، ظهرت الحاجة إلى دراسته في القرويين، وذلك بتخصيص حصة ضمن المناهج الدراسية،وبرز بهذا الاهتمام بتعليم الطب كذلك في "جامع الزيتونة" ب: "تونس" و "جامع الأزهر" في "مصر".(1)
    وأشير هنا إلى أن " جامعة القرويين" عاصرتها بعض مدارس العلم في جنوب المغرب، كمدرسة وكاك القريبة من مدينة "تزنيت"، وكانت هذه المدرسة النواة الأولى لسلسة مدارس العلم في المنطقة التي وصلها إشعاع القرويين، مثلما وصل مناطق المغرب.
    ونظرا لشهرة جامع القرويين الذي إذا جامعة تدرس فيها العلوم والفنون والطب، فقد كان الطلبة يهفون للأخذ منها، والحصول على شهادتها، فانتقلت إليها مجموعة من السماء أذكر منها لاسيما في الجنوب، الأستاذ "المختار السوسي"، الذي نهل من مدارس العلم العتيقة، ثم اتجه إلى فاس لاستكمال دراسته، والحصول على إجازة شيوخها في القرويين، وعلى الرغم من أن هناك تشابها في كثير من المواد المدروسة، والمقررات والمراجع المعتمدة، إلا أن أخذ قسط من الدراسة "بالقرويين"، يعد تتويجا للمعارف والعلوم الموجودة في المدارس العلمية العتيقة في "سوس"؛ والأستاذ "عبد الله الكرسيفي"، الذي ربط بين المتون المتداولة في "المدارس العلمية العتيقة بالجنوب"، وبين "جامعة القرويين" تعلما وتعليما، إذ كرع من معين تلك المدارس أولا، ثم اتجه إلى فاس حيث نال ما أهله ليكون، بعد ذلك أستاذا مبرزا في القرويين، إثر تخرجهم، ولاسيما من سوس، فحقق بذلك الربط بين المدارس "العلمية العتيقة"، و" القرويين"، ومن بين الأسماء البارزة التي أخذت من القرويين، بعد التحصيل في مدارس العلم بسوس الأستاذ "أحمد بن اليزيد الباعمراني"، الذي أخذ أولا عن عمه قاضي قضاة "إيالة إفني" الأستاذ "محمد بن عبد الله الباعمراني"، وذلك في مدرسة "الجمعة"(2) العبدلاوية، حيث ربض فيها حوالي اثنتي عشرة سنة، حتى أصبح عالما مشهودا له كذلك بالضلاعة والنبوغ، وجودة التحصيل، بشهادة "المختار السوسي" في المعسول،(3) الذي لاحظ مخايل الذكاء والألمعية فيه، عندما عرج عليه في مدرسة "الرميلة" "بمراكش"، وهو متجه إلى فاس للأخذ عن شيوخ القرويين.
    ومن خلال رحلة هذا العلامة الأديب، نستخلص أن فكرة الذهاب إلى " القرويين"، يقصد منها تتويج مراحل الدراسة العلمية، التي قطعها القاصدون إليها من سوس، خاصة إذا درسوا المتون المتداولة في تلك المدارس، وراجعوها مرة أو مرتين، ويوضح هذا أن "أحمد بن اليزيد" هذا المبعوث من لدن عمه قاضي القضاة، لم يطل المكث بالقرويين أكثر من ستة، لأنه وجد المتون المتداولة قريبة من اتي درسها، أو هي نفسها، ولمصادر والمراجع  تكاد تكون معروفة في المدارس العتيقة: وتحت يدي رسائل خطية  منه إلى عمه القاضي، (4)يؤكد له هذا التشابه، ويذكر له أن الجديد في القرويين هو بعض المواد كالجغرافية، والتاريخ باعتباره مادة مستقلة، وبعض المراجع الأدبية الحديثة آنذاك، "كالوسيط في الأدب العربي وتاريخه" لأحمد الإسكندري"، وكتاب "المفصل في الأدب" كذلك، أما كتب الأدب الأخرى "كنفح الطيب" "للمقري" مثلا، الذي يعد "أحمد بن يزيد" ممن درسوه كاملا، وحفظوا جملة مما فيه من أدب الأندلس لاسيما أدب "لسان الدين بن الخطيب"، وكذا "قلائد العقبان" لابن خاقان، و"المقامات" "للحريري"، وكذا مراجع النحو، والفقه، ووقع بعض التفاوت في التفاسير المتداولة في المدارس العلمية، والمتداولة في القروييــــن؛(5) وأشير إلى أن بادرة إرساله إلى "جامعة القرويين"، جاءت من شيخه وعمه القاضي، كما ورد في وثيقة كتبها يقول فيها ما معناه: "إنه بعثه ورفيقا له، سيأتي اسمه لاحقا، ليسستتموا في القرويين، بعد أن حصلوا العلوم والفنون، لا يما أحمد بن يزيد"؛ ومن خلاله نستطيع أن نجزم بأن الإشعاع العلمي على سبيل التأثر والتأثير، قد تم بين المدارس العلمية، وجامعة القرويين، وأن النموذج الذي مثله المذكور، صالح لتعميمه على أمثاله، كما ذكرنا آنفا بالنسبة للأستاذ " عبد الله الكرسيفي" إذ بمجرد عودته السريعة من فاس، تصدى، بأمر من عمه وشيخه القاضي، للتدريس في نفس المدرسة الباعمرانية "مدرسة الجمعة" حيث أنابه عنه، للاضطلاع بمهمة قضاء الجماعة، بعد وقوع الأخيار عليه.(6)
    وصحب هذا الأستاذ الشاعر الباعمراني المعر وف، "أحمد زكرياء" الذي تابع أولا دراسته في مدرسة "الجمعة" حوالي ثلاث سنوات، وفي بعض المدارس العلمية الأخرى، فاختاره أستاذهما قاضي القضاة المنوه به آنفا، على ما جاء في تلك الوثيقة بخطه، وبعد إمضائه فترة في "القرويين"، رجع إلى "آيت باعمران"، وقام بنفس الوظيفة، التي قام بها زميله أحمد بن يزيد، حيث شارط في إحدى مدارس آيت باعمران، وتعرف بمدرسة "بوكرفة" ةهكذا يتم إشعاع القرويين أيضا، من خلال هذا الأديب الشاعر الذي زاوج بين المدارس العلمية العتيقة، وبين جامعة القرويين في الفترة المذكورة نفسها.  
    وهناك أسماء  أخرى لامعة في هذا السياق، مثل الأستاذ "محمد العثماني"، وأخيه الشاعر المشهور "بالعثماني"، وكلاهما زاول مهنة التدريس، بعد الأخذ عن شيوخ "القرويين"، الأول في كلية اللغة العربية "بمراكش"، ثم في كلية الشريعة "بأكادير"، وكلتاهما تابعة لجامعة القرويين في صورتها الحديثة، والثاني وهو "العثماني الشاعر"، مارس التعليم الثانوي "بإنزكان"، وكانت له نشاطات أخرى في الحقل الثقافي بسوس، حيث كان يشرف على "مجلة الكلمة"، التي توقفت عن الصدور بعد أربعة أعداد، وكانت مجلة متميزة، وهذا لون آخر من الإشعاع العلمي للقرويين في الجنوب، وإلى جانبهما توجه إلى القرويين لنفس المهمة الأستاذ "محمد بن عبد الله العويني الأدوزي"، الذي مارس، بعد أن قضى مدة أطول في رحاب جامعة القرويين، مهنة التدريس في الأطوارالابتدائية، ثم في "كلية اللغة العربية" حيث عمل بقية عمره إلى أن اختاره الله إلى جواره.
    ومن أهل الجنوب الذين ربطوا بين التعليم في "ابن يوسف" والقرويين"، الشقيقان الأستاذ "محمد بارز الحاحي"،(7) وأخوه "القاضي أحمد، اللذان قضيا في القرويين أياما عصيبة، ولكنها لم تخل من الإشعاع الثقافي، الذي صحباه معهما إلى مراكش، فعمل الأول منهما في حقل التعليم ردحا من الزمن، وتخرج على يديه أفواج من الأساتذة المعاصرين، سواء في "ثانوية ابن يوسف" أو في "كلية اللغة"، حيث تقاعد فيها الآن، ومازال يعمل في إطار التدريس، من خلال أحد الكرسي العلمية، بمسجد "ابن يوسف"، كما أن أخاه مازال على قيد الحياة، ما المذكور قبل فقد توفاهم الله جميعا رحمهم الله، وتواريخ وفياتهم مقاربة ( بين 1379هـ/1960م – 1416هـ/1995م) وهذه الأسماء التي مثلت بها، إن هي إلا نماذج لنظرائهم من السوسيين والجنوبييين عموما، والهدف من الوقوف عندها، هو الإشارة إلى أن أثر "جامعة القرويين" في مناطق المغرب، لا يقل عن إشعاعها في "أوروبا وإفريقيا" من خلال الذين أخذوا عن شيوخها.
    ومن الجدير بالذكر أن "جامعة ابن يوسف" لا تقل إشعاعا عن جامعة القرويين، وهذا نتج عنه ذلك التنافس الواقع بين الجامعتين، فكل منهما ترى أن لهما امتيازا زتفردا في المجال العلمي والفكري والحضاري، لاسيما أن "ابن يوسف" يرى المنتسبون إليه أنه مغبون، إزاء الاهتمام بالقرويين، وأنه ينبغي أن ينال ابن يوسف من العناية نفس القدر، خاصة غداة صدور الظهير المؤرخ في 8 شوال 1357هـ/1938م، المنظم لسير الدراسة في الجامعة اليوسفية،(8)  مما يؤكد المساواة بينهما ويجعلهما في مرتبة متقاربة، على أن يبقى "للقرويين" فضل الشبق والريادة من الناحية التاريخية، وقد نشأ عن هذه المنافسة، موقف وقفه أحد رؤساء الجامعة اليوسفية، هو العلامة "محمد بن عثمان المسفيوي"،(9) الذي ألف كتابا بهذا العنوان، في ثلاثة أجزاء، ظهر الأول منها إلى الآن، وقد أثار كتابه حفيظة الذين لم يروا لجامعة القرويين مثيلا، لكنه دافع عن وجهة نظره، وظل مستميتا حتى وفاته، والواقع أنه لا يغض من قيمة جامعة القرويين ظهور جامعة أخرى في المغرب آنذاك، هي جامعة ابن يوسف التي كان لها أيضا إشعاع علمي وحضاري، انعكس على مناطق المغرب كافة، ولاسيما الجنوب، إذ تخرج منها علماء وأدباء، على شاكلة من تخرجوا من القرويين، وكثير منهم أخذوا عن شيوخ فاس وعلمائها، وكثير منهم تخرجوا من المدارس العلمية العتيقة ليس إلا، أو تولوا التدريس بإحدى المدارس، قبل انتدابهم للتدريس "بابن يوسف"، بعد حصولهم على شهادة العالمية، دون أن يأخذوا من هذه الجامعة أو تلك، والأمل معقود أن تنهض الهمم، لتتبوأ جامعة القرويين في مستقبلها، المكانة المرموقة، التي تؤهلها لها صفحات تاريخها المجيد.
    (1)  ينظر في هذه النقطة: موضوع "العبد بنعبد الله" بعنوان: "كيف يتطور تعلم الطب في جامعة القرويين" "مجلة الجامعة" ع 1/ ص: 90
    (2)  توجد هذه المدرسة في قبيلة "أيت عبلا الباعمرانية"، وهي المشهورة هناك بالعلم والقراءات.
    (3)  تراجع ترجمته مع ترجمة عمه القاضي في الجزء 10 ابتداءا من ص: 230
    (4)  هذه الرسائل متعددة، وفي تلك الأسرة "البلوشية"، وجميعها عندي.
    (5)  أقصد هذه السنة الدراسية 1361هـ/1942م -1943م حسب ما كتبه عمه القاضي "محمد بن عبد الله أبلوش" مؤرخا السنة التي بعثه مع رفيق له عام 1361هـ/1942م في كناش خاص تحت يدي.
    (6)  ينظر المعسول وغيره كمعلمة المغرب، مادة بلوش، بقلم كاتب هذا المقال.
    (7)  هو من الأساتذة الذين أخذت عنهم في "ابن يوسف بمراكش"، خلال المرحلة الثانوية، ما بين سنة 1959م – 1961م
    (8)  وذلك في عهد "الملك محمد الخامس طيب الله ثراه"
    (9)  انظر مقالا "لعبد الحميد محيي الدين الكاتب بعنوان "محمد بن عثمان المسفيوي وكتابه الجامعة اليوسفية" في العدد الثالث من "حوليات كلية اللغة"، سنة 1415 – 1994 ( ص: 195 – 203) توفي رحمه الله سنة 1364هـ - 1945 م بمراكش.