جامعة القرويين من خلال التاريخ (دعوة الحق)



جامعة القرويين من خلال التاريخ

  دعوة الحق
العددان 91 و92
    حقق التاريخ في سجله الأمين أن (كلية القطر التونسي) سبقت كلية المغرب الأقصى –ذلك أن جامع الزيتونة- بالقطر التونسي الشقيق يعد في مقدمة مؤسسات- عبيد الله بن الحبحاب مولى بني سلول الذي ولاه هشام بن عبد الملك على المغرب حوالي سنة 114هـ (731)مؤتمرا فبنى جامع الزيتونة بعدما اختطه حسان بن النعمان كما صححه صاحب المؤنس، وبالأفواج التي أخذت ترد على إفريقية من أبناء الشرق العربي تتميما للفتح ونشر الثقافة الإسلامية في ربوعها تكونت نهضة علمية أنارت البلاد وشعت معارفها المشرقة على جنباتها، ومن بين أولئك الرجال الأفارقة الذين حملوا مشعل الثقافة لماعا نيرا –أبو الحسن علي بن زياد التونسي الذي كتب له اللقاء والسماع من مالك والثوري والليث بن سعد وسواهم من أئمة الإسلام –ولم يكن بعصره في إفريقية نظيره، تلمذ له أسد بن الفرات وسحنون وغيرهما، وروى عن مالك الموطأ وكتبا- فكان معلم سحنون الفقه، واعترافا له بالفضل كان لا يقدم عليه أحدا من أهل إفريقية.
    وكان رجال العلم والمعرفة بالقيروان إذا اختلفوا في مسألة كتبوا بها إلى ابن زياد رغبة منهم في الوقوف على الصواب ابن زياد المتوفى سنة 183.
    ومن رجالات الثقافة بإفريقية –عبد السلام بن سعيد التنوخي الملقب بسحنون من أمل شامي قدم أبوه في جند حمص –أخذ العلم بالقيروان عن مشايخها خصوصا علي بن زياد الآنف الذكر. رحل إليه بتونس ثم رحل إلى مصر والمدينة، وعاد إلى إفريقيا سنة 191ومنهم عبيد الله بن يزيد اليحصبي القروي نشأ في عز وكرم بحارة يحصب بمدينة القيروان وبها تفقه وتأدب حتى أصبح من علمائها البارزين فضلا عما كان يتحلى به في ميدان القوة من شجاعة وبطولة، فهذه طائفة من خيرة المثقفين (وغيرهم كثير) أنجبتهم إفريقيا في ميدان الثقافة الإسلامية قبل أن تختط فاس، ويوضع تصميم لإحدى عدوتيها –الأندلس والقيروان- فكيف بكليتها التي ما أسست إلا سنة 245هـ بعد بناء المدينة باثنين وخمسين سنة، أضف إلى هذا أن مدينة فاس ما تسنى لها أن تتبوأ المقعد الملائم لها في عالم المعرفة وتصبح مركزا علميا بمغربنا الأقصى إلا بعد ما تدفق فيها علم القيروان، وعلم قرطبة حاضرتي المغرب والأندلس اللتين فارقهما العلماء من أجل عيث العرب في الأولى، واختلاف بني أمية في الثانية.
    فبعدما تأسست فاس ومرت عليها حقبة من الزمن ظهر على بساطها العلمي نخبة من رجال الثقافة كعثمان ابن مالك فقيه فاس وزعيم فقهاء المغرب في وقته (كما يقول ابن فرحون) أخذ عنه فقهاء فاس كابنه أبي بكر، وأبي بكر بن الحناط وغيرهما ممن تلمذوا له، وقد علق على المدونة، ذكره ابن سهل في مختصر المدارك، وأبي عبد الله محمد بن عيسى المومناني الشريف الحسني الفاسي المدعو بالإمام لسعة علومه منقولا ومعقولا، أصولا وفروعا، ولي قضاء قرطبة ومراكش أيام الموحدين، وعلا كعبه في الفقه بالحديث وعلله، وأسانيده وتخريجه، ذكره ابن الأحمر في حديقته، ولم يتعرض لوفاته، وكأبي عمران الفاسي موسى بن عيسى بن أبي حجاج الغفجومي أصله من فاس وبيته فيها يعرف ببيت بني حجاج، استوطن القيروان وحصلت له بها رياسة العلم، تفقه بأبي الحسن القابسي ورحل إلى قرطبة فأخذ بها عن الأصيلي وسمع من جماعة ثم رحل إلى المشرق وحج، ودخل العراق، فسمع من أبي الفتح بن أبي الفوارس وأبي الحسن المستملي، ودرس الأصول على القاضي أبي بكر الباقلاني.
    وأصبح من أحفظ الناس وأعلمهم اذ أضاف حفظ المذهب المالكي إلى حديث الرسول عليه السلام ومعرفة معانيه مع الاضطلاع بمعرفة الرجال والتعديل والتجريح، له تعاليق على المدونة لم تكمل، وكان أبو بكر الباقلاني يعجب به ويقول له: لو اجتمع في مدرستي أنت وبعد الوهاب (وكان وقتئذ بالموصل) لاجتمع علم مالك أنت تحفظه وهو ينظره – توفي سنة 430هـ عن 65 سنة.
    فها نحن نرى هذه الشخصية العلمية الفاسية ما تفوقت وأخذت بزمام الرياسة الثقافية في العهد المتحدث عنه إلا بعد التلمذ لرجال القيروان مع ما تلقته أثناء رحلاته للأندلس والشرق العربي الشقيق من معارف ويؤيد هذه الفكرة ما جاء في كتاب (زهرة الاس في بناء مدينة فاس) لأبي الحسن الجزنائي في فصل (سواري وسقوف وما يشبه ذلك) ص 74 (وأما قراءة الحزب في القرويين بعد صلاة الصبح والمغرب فأمر بإحداثهما ببلاد المغرب يوسف بن عبد المومن بن علي الموحدي ونقله ابن صاحب الصلاة، وانتدب لذلك نآسا واستمر العمل عليه إلى أيام أمير المسلمين أبي الحسن المريني رحمه الله، بل أجرى جراية لعشرة أشخاص من القراء، وأمر بذلك في سائر جوامع المغرب .
    أما قراء الكتب فيه لإسماع الناس بعد الفراغ من قراءة حزب الصبح، فإن بعض أئمة الجامع في أول ولاية بني مرين –كان كثيرا ما يقرأ بين يديه في أول النهار تفسير القرآن للثعالبي، وحلية الأولياء، وذلك في جهة خاصة منه، وكان له قارئ مجيد يحضر له بعض الناس بعدما كانوا يجلسون متفرقين حلقا حلقا، وربما أخذوا في أمور الدنيا إلى أن تطلع الشمس فينصرفون، وهذا ما حفز الإمام أن يقترح على القارئ التصدر لحزب المحراب في نفس الوقت، ويقرأ هناك من تلك الكتب فصولا لإسماع الحاضرين –وتعليمهم ما هم في أمس الحاجة لمعرفته من المبادئ مما دفع الناس للإقبال على الاستماع في نشاط ظهرت نتائجه في الكثير وربما اجتمع في المجلس آلاف المستمعين، وتجلت هذه الظاهرة الطيبة في سنة إحدى وخمسين وستمائة 651 موافق 1252م.
    وترسم هذه الخطة باقي الخلفاء واجروا للقارئ جراية مهمة استمرت.
    على أن هذه الظاهرة العلمية المشبعة بتلاوة القرآن الكريم، وسرد بعض كتب التفسير والمناقب لا تمنع وجود حركة علمية ونهضة ثقافية في دراسة العلوم الإسلامية وءالاتها كما سنرى ذلك ولاء.
    أما تفسير الثعالبي المختصر في مجلدين من تفسير ابن عطية فما ظهر للوجود إلا أواخر القرن الثامن وهذا المفسر نفسه –عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي الجزائري يقول: (رحلت في طلب العلم من ناحية الجزائر في ءاخر القرن الثامن فدخلت بجاية عام اثنين وثمانمائة.
    فهذا النص يدلنا على أن التفسير المتحدث عنه والمعتنى بسرده في جمهرة الحاضرين بالقرويين أو في دولة بني مرين، لا زال لم يخلق فينشر بين الطلبة ويذاع لحد الدراسة والوعظ والإرشاد.
    لذا أجدني في ريب من هذا النقل الذي أسفر عن قيام هذه الظاهرة سنة 651هـ-1252م. ومع كل هذا فلا يستطيع أحد أن يجهل أو يتجاهل القيمة الأدبية والثقافية اللتين أدتهما جامعة القرويين لأبناء الناطقين بالضاد وغيرهم ممن تردد على أبهائها في مختلف العصور والأجيال – كالرهيب الأوربي (نكولا كلينار) الذي أقام بفاس سنة 1540-1541م أيام أبي العباس الأعرج السعدي في القرن العاشر الهجري حوالي سنة 948هـ-1540م مثابرا على دراسة اللغة العربية بالجامعة القروية، كما كان في تلك الأثناء يكتسب لرؤسائه وأصدقائه رسائل باللغة اللاتينية يصف فيها مقامه بفاس، والدروس التي كان يتلقاها وعوائد الطلبة والمدرسين، وكيفية التدريس والعلوم التي كانت تدرس إذ ذاك وسوق الكتب، وغير ذلك من أحوال –القرويين وتاريخها الثقافي الحافل، كما المعت لذلك مجلة المغرب في عددها الصادر في شهر رمضان وشوال عام 1355هـ-1935م.
    ورغم ما سطر فلا يفوتنا أن نصحح هذا التاريخ الذي قصر الدراسة بجامعة القرويين على عصر الدولة المرينية أواسط القرن السابع الهجري –فهذا أبو عبد الله البغدادي محمد بن أحمد بن إبراهيم بن عيسى ابن هشام الأنصاري من رجال أواخر القرن الخامس الهجري وأوائل السادس نشأ بجيان من الأندلس ورحل للمشرق ثم عاد للمغرب حوالي 515هـ-1120م يحمل علوما جمة –وألقى عصا التيار بفاس وقعد بغرب جامع القرويين يدرس الفقه فتلمذ له نجباء فاس كابن الملجوم، ثم غادر فاسا  إلى جيان، وبعد مدة عاد إليها واشتغل بدروسه العلمية إلى أن توفي سنة 546هـ-1150م كما جاء في الجزء الرابع من كتاب (الذيل والتكملة) لابن عبد الملك.
    وهذا أحمد بن عبد الصمد بن أبي عبيدة الأنصاري الخزرجي لقرطبي ثم الفاسي ممن زاولوا التدريس بجامعة القرويين إذ كان يملي دروسا في الحديث والتكلم عن معانيه –توفي بفاس سنة 582هـ-1185م. ومن رجالاتها يوسف بن عبد الصمد بن يوسف بن علي أبو الحجاج الأصولي كان ذا ثقافة واسعة عارفا بالسير والتاريخ والأصول وغيرها قعد للتدريس بمسجد زقاق الرواح من فاس حيث سكناه وسكنى سلفه دخل اشبيلية ودرس بها ثم رجع إلى فاس سنة 613هـ-1215م وتصدر للتدريس في شرق جامع القرويين مدة إلى أن وافاه الأجل المحتوم سنة 614هـ-1216م كما أثبت ذلك أصحاب الجذوة والذخيرة السنية والسلوة.
    ومن سنن العادات التي لا تفتأ تسانجها الطبيعة البشرية –ان جلوس هؤلاء الأئمة بكلية القرويين للدراسة لم يكن ابتكارا جديدا، وحدثا طارئا لأمر لم يعهد من قبلهم، وخصوصا الغرباء منهم فإن من طبع الغريب أن لا يتجرأ على إحداث ما لم تجر عادة المواطنين به بل يساير الوسط الذي يلابسه من جديد، ومن هذا فواقع الأسبقية لكلية القطر التونسي الشقيق لا ينسحب مع تصحيح التاريخ، وجعل الدراسة تبتدئ في عصر دولة المرابطين.
    إنما الذي نلاحظه عندما نرجع لحياة الثقافة العلمية ومعرفة رجالها بالعاصمة العلمية هو أننا نجد أثناء تراجم الكثير أنهم زاولوا الدراسة بمختلف مساجد فاس وأقربها لمسكانهم، وطبعا كان للقرويين نصيبها من الدراسة، بيد أن الذي يبدو جليا في أبهاء جامعة القرويين وخاصة منصة خطابتها ومحرابها هو خطباؤها وأئمتها الذين توالوا على منبرها عبر العصور وكان لتسجيلهم في حظيرة هذه المنقبة المقام السامي في الذكر والعناية.
    نعم لا يجعلنا هذا (ونحن نعالج الفكرة) ننسى ما لعبته الجامعة من أدوار في الحقل الثقافي مدى القرون والأجيال، وما حفت به من عنايات واهتمام من لدن الدول والحكومات المغربية التي تعاورت على كرسي المغرب في عهود الإسلام المبكرة إلى قرن العشرين –فأسسوا بها خزانات للكتب والمصاحف- كأبي عنان المريني الذي كان له حب خاص بالثقافة والأدب مع التقدير والإعجاب بمن ينتمي لهما من الطلاب والباحثين فصنع خزانة هامة وضعها رهن إشارة الطلاب، تحتوي علوم الأديان والأبدان واللسان وسواها من المعارف والفنون.
    ورصد لها قيما لضبطها وذلك سنة 750هـ. كما جعل للمصاحف خزانة خاصة في قبلة الجامع كتبت بأجمل الخطوط، وكتب السلطان أبو عنان فوقها ما لفظه: (الحمد لله أمر بعمل هذه الخزانة السعيدة مولانا أمير المومنين المتوكل على رب العالمين عبده فارس أيد الله أمره، وأعز نصره بتاريخ شوال سنة 750هـ).
    وأما موضع الخزائن (يقول صاحب الجذوة) الذي بشرقي الجامع وهي زاوية القراء الباهية فأمر بها المستعين رحمه الله لتوضع في شرقي هذا الجامع، فإنه أقامها على ساباط هناك ورتب فيها قراء القرآن يختمونه في سبعة أيام، وأجرى لهم على ذلك جرايات، وتم عمل الزواية المذكورة في أواخر شهر رمضان واستمر السلاطين والملوك يولونها من الاعتبارات ما تجلى في عصر دولتنا العلوية الفاخرة خصوصا أيام بطلها المجاهد الغفور له محمد الخامس الذي تضيق العبارات وتكل الأقلام عن الوفاء بما قدم من خدمات خالدة نحو السير بنهضتها إلى الأوج اللائق بمجدها وكرامة تاريخها عبر القرون والسنين.
    وها هي اليوم غدت تساير ركب الثقافة الحديثة مستردة مجد ما كان لها من نصيب علمي وفني شعت أنوارهما على العالم أجمع.

    0 commentaires:

    إرسال تعليق