محمد بن عثمان المراكشي ومشروع التاريخ للجامعة اليوسفية بمراكش، شقيقة جامعة القرويين


محمد بن عثمان المراكشي ومشروع التاريخ للجامعة اليوسفية بمراكش، شقيقة جامعة القرويين

  حسن جلاب
العدد 364 ذو الحجة 1422/فبراير 2002 دعوة الحق
    تقديم : هناك مؤلفات تكثر حولها الأحاديث سلبا أو إيجابا بمجرد صدورها، وتشغل الناس ما بين مؤيد لما فيها مناصر لمؤلفها، ومعارض لها منتقد لمضمونها، وقد يكون ذلك محدودا في محيط ضيق كالمدينة، أو يتوسع ليشمل البلاد كلها أو أكثر من ذلك.
     ومن المؤكد أن كتاب "الجامعة اليوسفية بمراكش في تسعمائة سنة" واحد منها، لما أثير حوله من جدل ونقاش منذ الإعلان عن تأليفه، ثم بعد صدوره سنة 1937 م.

    - شخصية ابن عثمان المراكشي :
    أما صاحبه فهو "أبو عبد الله محمد بن عثمان بن أبي بكر بن إبراهيم... المسفيوي المراكشي الإدريسي" كما ورد عند العلامة "محمد المختار السوسي"، وعند "محمد بن محمد المؤقت المراكشي".(1)
      تلقى تعليمه الأولي في مدينة مراكش "بجامعة ابن يوسف" على علمائها الأعلام، وينتمي إلى أسرة علمية معروفة. فأخوه "إبراهيم" كان يشتغل بسفارة المغرب بالقاهرة وهو الذي مهد له سبيل الرحيل إلى مصر للدراسة، وابن عمه "أبو بكر بن علال المسفيوي" كان قاضيا على المذاكرة.
    وسافر إلى مدينة الرباط لاستكمال دراسته سنة 1344 هـ/1925 م ومكث بها زهاء ثلاث سنوات، أخذ خلالها على المحدث "محمد المدني بن الحسني"، والشيخ "أبي شعيب الدكالي"، و"محمد بن عبد السلام السايح"، و"محمد بن العربي العلوي".(2)
      وتميز "ابن عثمان" بميله إلى المطالعة والمراجعة والمقارنة بدل الاعتماد على الحفظ والرواية كما هو الشأن معاصريه من الطلبة.
      وسافر إلى مصر للدراسة، وأخذ على كبار علمائها، وكان شديد الإعجاب بالقاهرة وجامعتها وعلمائها، ويسمي مصر ببلاد وادي النيل العزيز، كما كان كثير التردد على دار الكتب المصرية، والبحث عن ذخائرها، وقد عبر عن ذلك في حديثه عن إعجابه بكتاب "المخصص" لابن سيد" الذي قال عنه: "فحذا بي الشوق إلى تخصيص وقت للوقوف عليه بدار الكتب المصرية...".(3)
     وتتبع ما كان يجري بمصر من حوار حول قضايا علمية، مثل الحوار بين أنصار رسم المصحف القديم، وأنصار كتابة المصحف بالخط العادي، فمال إلى أنصار التجديد كما عبر عن ذلك في كتابه "الجامعة اليوسفية" وهو رأي شيخ الأزهر أنذاك "محمد مصطفى المراغي".(4)
     ولما عاد إلى المغرب تصدر للتدريس في "كلية ابن يوسف". وقد أقيم له حفل ترحيب وتهنئة بالمناسبة ألقيت فيه خطب وقصائد، منها "قصيدة عبد القادر حسن" التي قال في مطلعها:
     أكلما قمت لا ألقى سوى الخطب
             كأنما الشعر لا يعزى إلى أدبي (5)
     وفي هذه الفترة تعرف إلى المرحوم "عبد الله الجراري" خلال رحلته إلى مراكش سنة 1354 هـ/1935 م فقد استقبله في بيته بمعية عدد من العلماء الذين لزموه كذلك، وهم "محمد المختار السوسي" و"عبد الجليل بلقزيز" و"إبراهيم الألغى"، و"محمد ابن عبد الرزاق الفاسي" و"أحمد بن الفاضل" وغيرهم، وكان ذلك (في قبة أنيقة بمنزله على الطرز المراكشي بحومة المواسين) ووصف المؤلف نفس المكان بقوله : (واستقبلنا في قبة بمنزله عليها رونق وبهجة).(6)
     كما كانوا ينظمون زيارات استطلاع واستجمام إلى بعض المآثر التاريخية "لجنان الحارتي"، وحدائق المنارة وأكدال ومدرسة ابن يوسف وضاحية مراكش: أمزميز، وزيارات علمية إلى بعض المدارس الحرة كمدرسة المختار السوسي، ومدرسة محمد بن عبد الرازق الفاسي وجامع ابن يوسف حيث تلقى الدروس العلمية والدينية.(7)
     وكانت تدور خلال هذه اللقاءات مناقشات علمية ومساجلات أدبية ممتعة نذكر منها:
    • أن ابن عثمان طالع في عدد من مجلة الرسالة المصرية مقالا افتتاحيا في السيرة النبوية جاء فيه:
    (كان متواصل الأحزان)، فحينا ألقى الصحيفة من يده وقال: كلا، ما تقتضيه أخلاقه الكريمة، و إلا فالحزن بعيد عنه كل البعد.
     وأكد الأستاذ الجراري على وجود أجوبة تجمع بين المقامين: فقد جاء عن علي ابن أبي طالب أنه كان دائم البشر، وعن هند أنه كان متواصل الأحزان، ووجه الجمع بين الخبرين أنه كان متواصل الأحزان باطنا، وظاهر البشر ظاهرا تأليفا للناس.(8)
    • ودار حديث بينهم حول شخصيات علمية مصرية والمفاضلة بينها وحول كتاب: "الأربعين النووية"، وقضايا لغوية متنوعة.
     ولعل من أهم الأحاديث التي دارت بينهم خلال تلك الرحلة حديث حول الصحف والمجلات وملاحظة ابن عثمان المراكشي افتقار المغرب لها. واقتراحه إصدار مجلة بمراكش يعرب فيها عما يختلج بضميره ويقع من ألوان القضايا والأحداث، وكل ما ترمي إليه النفوس من أدب وأخلاق ومجابهة أصحاب الدعاوى العريضة التي ملأت الفضاء وقاحة وجهلا (كما قال).
     واقترح بعض الحاضرين إصدار توليفات أدبية وعلمية أسبوعية بدل المجلة الشهرية فذلك أفيد وأفضل، وبقي التفكير في الوسيلة التي هي المطبعة، فقال ابن عثمان بأن بمقدوره إحضار مطبعة من الطرز العالي (كذا) بمبلغ مائة ألف فرنك... وتبرع هو بعشرة آلاف فرنك منها، ويتبرع آخرون بالباقي... وأعرب الكل عن فوائد هذا العمل إذا تم في كل الجوانب الدينية والعلمية والثقافية.(9)
     وقد دارت مساجلة أدبية رفيعة بين هؤلاء العلماء أثناء زيارتهم، لأمزميز وصفوا فيها اشتباكا وقع بين بعض الثيران، وعبروا عن ذلك بقصيدة تناوبوا في ارتجال أبياتها الواحد بعد الآخر، شارك فيها: المختار السوسي، وعبد الله الجراري وأحمد بن الفاضل تقع في أربعين بيتا، ارتجل منها ابن عثمان الأبيات التالية:
     2- كنا نطل بربوة وأمــامنا
             من ذاك مــا هو غاية السلوان
     7- يهوى فتظهر نفـرة ولوانها
             رضيت بكل فؤادها الجذلان
     12- يختال من فرح وطيب تلذذ
             تبدو عليـه نشوة السكران
     21- لكأنما والصب لا ينسى الهـوى
             قد هجت ما قد هجت في الإخوان (10)
     وكانوا يستفسرون طلبة المدارس عن دروسهم ومحفوظاتهم ويستمعون إلى دروس العلماء، كدروس محمد بن عثمان في شرح صحيح البخاري ليلا، ودرس له في المنطق ولخصه المؤلف وسجل ما ورد فيه من معلومات وكيفية تقديم المحاضر لها بشكل تدريجي يحبب العلم للمتلقين.(11)
     ووصف "صاحب الرحلة" ما كان عليه مسجد ابن يوسف من تألق علمي وإقبال على الدروس قال: (فدخلنا متلهفين فإذا هو يتدفق علما وفقها... وإنها ثمانية دروس دفعة واحدة بمختصر خليل رحمه الله في البيوع والطلاق والضحية والخصائص والطهارة مندهشين في هذا الفيض العلمي المشبع).(12)
     ووصف الجراري ابن يوسف ليلا فقال: (ثم قفلنا مارين بالكلية اليوسفية، فإذا هي تتلألأ وتضيء باختلاف الدروس صرفا ونحوا، ألفيات أربع تدرس...).(13)
     وسأل ابن عثمان الضيوف كيف رأوا ابن يوسف، قال: (فأخبرناه الحقيقة متشكرين من رجاله وعلمائه واجتهادهم المتتابع، وبالأخص الذين اخذوا ينهضون ويجددون، فأدخلوا إليه المنطق البيداغوجي، والتاريخ، وقوانين ابن جزي، والكامل للمبرد وأشباه هذه، والفنون والمؤلفات التي تذلل الطريق في وجه التلميذ حتى يصل إلى الهدف في أسرع وقت، فضلا عن الدروس الأدبية التي يتلقاها بروح جديد يبت فيه الوعي والنشاط).(14)
     وبالإضافة إلى هذه المعلومات المفيدة عن الكلية اليوسفية وأعلامها والمدارس الحرة بمراكش، مكنتنا رحلة الجراري إلى مراكش من التعرف أكثر إلى شخصية ابن عثمان المراكشي، فقد كان مرحا، يسوق النكتة اللطيفة، غزير العلم، يعرف ببعض الشخصيات العلمية للمدينة "كالسهيلي"، عارفا بالوضع الاجتماعي لسكان مراكش، يحرص على بث الوعي في الشباب الناهض المتدفق حيوية ونبوغا، ومع ذلك كله يتجنب الشبهات يغادر المجالس التي يحضر فيها الطرب والغناء.(15)
     وقد عين "ابن عثمان" رئيسا "للجامعة اليوسفية"، ولمجلسها العلمي خلفا لمولاي امبارك العلوي الأمراني سنة 1941 م.
     وقد عمل على إصلاح مناهج الدراسة بها، ليعود إليها إشعاعها العلمي القديم. ومن جملة ذلك دفاعه عنها ليحدث بها النهائي، كما هو الشأن بجامعة القرويين. وقد صادف عنثا كبيرا، ومعارضة قوية بسبب ذلك من طرف من كانوا يرغبون في أن تبقى الجامعة اليوسفية تابعة للقرويين.
     وقد تحقق هدفه بصدور نظام الدراسة بجامعة ابن يوسف سنة 1938 م (16) واعتبر ذلك انتصارا شخصيا لابن عثمان، قال فيه الشاعر مولاي الصديق العلوي قصيدة مطلعها:
     ســر القــريض رئيــسنا الـ
             مـحـبـوب إذ كـرمت ناسـه
     وأفــــــــضـت مـن دوا
             عي البـشـر، مـا أدهقت كـأسـه
     أرضــيت رمــز الشــعب إذ
             أرضـيت هذا اليـوم ناســه(17)
     وقد قال المرحوم "عبد الله الجراري" عن إدارته للجامعة : (عين بها كرئيس واستمر يديرها عن جدارة خلقت فيها حيوية وجدة أصبحت معها تساير نظيرتها القرويين، وتنافسها سيرا ومنهجا، أضف إلى ذلك إحسانه إلى التلاميذ والطلبة مما حببه إلى الكل. علاوة على الأساتذة الذين كان كأحدهم يشاورهم ويعاملهم كإخوة يتعاونون على السير بالمعهد إلى النتائج المتوخاة).(18)
     وقد توفي ابن عثمان بمراكش سنة 1365 هـ/1945م بشكل مفاجئ أثناء استقباله لبعض الضيوف في منزله، ودفن بمقبرة الإمام السهيلي. ورثاه شاعر الحمراء ببيتين قال فيهما:
     رئيـس المجلـس العلـمي توفـي
             وداهـم فـجـره ليـل التـخـفـي
     فـقل للشـامـتين به جزيـتـم
             جـزاء ذوي الشـمـاتة والتـشـفي (19)
     وابن عثمان ذو شخصية متميزة، فقد كان على قدر كبير من النباهة والذكاء، مكنه من التقدم على أقرانه في طلب العلم وفهمه وتحصيله، شديد الاندفاع والانفعال، له جراءة في إبداء الرأي والتصريح به مهما كان عدد أو نوع الخصوم، مع ميل إلى الجدال والنقاش.
     وشخصية من هذا النوع نتفاعل بشدة مع محيطها الاجتماعي والثقافي، لذلك نقل مسألة الدعوة إلى إصلاح جامعة ابن يوسف من مسألة موضوعية مشروعة، إلى قضية شخصية واجه فيها كل من يحاول وضع هذه الجامعة في إطارها الذي تستحقه، وأبى إلا أن يقارنها بأختها جامعة القرويين، ويذهب إلى القول بتقدم الجامعة التي ينتسب إليها... وبالتالي مواجهة من يريد إنصاف الجامعتين من الباحثين. لذلك اعتبر مجرد دراسة أبي عثمان السلالجي صاحب البرهانية بمراكش "نغمة جديدة من النغمات التي لم تكن معتادة في بعض الأوساط".(20)
     واعتبر دفاع محمد الحجوي الفاسي عن المرابطين وحديثه عن الحركة العلمية بمراكش من اعتراف بعض الفاسيين المنصفين قال: "أوردناه في هذا التعليق لبيان الحقيقة كما يعتقدها المنصفون من رجال العلم بفاس". وقال عنه كذلك: "وقد اعترف بهذه الحقيقة – أي ازدهار العلوم بمدينة مراكش – وأضاف إليها معلومات أخرى علامة فاس وبحاثته الفقيه الحجوي مندوب المعارف".(21)
     وقد ساهمت الظروف العلمية والتربوية التي كان التعليم يعيشها في إذكاء هذا الاتجاه، فالكل كان يصرح بضعف التعليم وحاجته إلى الإصلاح، ورياح التغيير كانت تهب على الجامعات والمدارس، وزاد من تشجيع ابن عثمان على هذا التوجه، ما كان يلقاه من تيار المجددين الموجودين "بابن يوسف" آنذاك، من الشباب الذي تلقى الدراسة بالمشرق، وتشبع بالأدب العربي ومال إليه وإلى فرض الشعر، بدل الاهتمام بالمواد الشرعية والفقهية التي كانت الجامعة تهتم بها بالأساس....
     وتجلى ذلك في الاحتفال بابن عثمان إثر رجوعه من الشرق ومدحه وتشجيعه على الصمود والدفاع عن جامعته، والعمل على أن تكون الجامعة الأولى بالمغرب، بغض النظر عن الدرجة الكبيرة التي أدركتها أختها الشقيقة بفاس.
     وتحول الاهتمام من الجامعة إلى الاهتمام بمدينة مراكش ككل، فكان يدعو إلى الاهتمام بمآثرها التاريخية وإصلاح مساجدها. ورعاية تراثها الحضاري والثقافي على العموم، وتشجيع علمائها والتعريف بهم، وفي هذا الصدد أشار إلى عزمه كتابة مؤلف عن هؤلاء العلماء الأعلام.
     ومن هنا، كان تنويهه بعمل معاصره "عباس بن إبراهيم المراكشي" في كتابه "الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام، فسماه (صديقنا العلامة المؤرخ...") وقال عن حديثه عن زيارة قبور الأولياء بأنه "بحث ضاف" وأنه تناول الموضوع "بما لا مزيد عليه" ولكنه لم يكن متفقا معه في مسالة زيارة الأولياء (وإني أحترم بحثه الخاص، مع احتفاظي بآرائي الخصوصية في بعض النقط التي أصارحه فيها بالمخالفة).(22)
     ويبدو أن "ابن عثمان" كان من السلفيين الذين يرفضون الحديث عن التصوف ويهاجمون الصوفية، عبر عن ذلك تدعيما وتزكية لموقف المرابطين في قضية "ابن العريف"، و"ابن برجان" وغيرهما، وقد ذكر بعض مثالب الصوفية، وتصرفات الغلاة منهم، وخاصة أولئك الذين كانوا يقولون بوحدة الوجود والحلول وغيرها من الأفكار التي اعتبرها كفرا.(23)
    وتحامل على "محمد بن محمد المؤقت المراكشي" الذي جمع بين الطرقية والكتابة عن الأولياء والدعوة إلى زيارتهم والتبرك بهم، وقال بأن بعض آرائه (تشم ولا تفرك)، كما كان شديد التحامل على "محمد بن تومرت" المعروف "بالمهدي"، ويسميه (بدجال الموحدين وداهية الهرغيين) والسبب في ذلك راجع إلى ما كان يستعمله من أساليب مختلفة، وما يتبناه من مبادئ قصد الوصول إلى الحكم. فكان ابن عثمان يرفض هذا النوع من الوصوليين الذين يتحايلون للاستفادة مما لا يستحقونه.
    وكانت "لابن عثمان" معارك أدبية – إضافة إلى قضية الجامعة اليوسفية –  لم يتورع في قذف الطرف الخصم وتبكيته بكثير من الانفعال والتشنج كما فعل مع فقيه ادعى أن كتاب العصر لا يستطيعون إيراد السجع لأنهم لا يفهمونه لأنهم يقصدون الكتابة المرسلة الحديثة، فقد هاجم هذا الفقيه وبين وجهة نظره في الموضوع وأنشأ رسالة نثرية مسجوعة تحديا له.
    وقد وجدت تعليقا للرئيس "محمد بن الهاشمي المسفيوي" بخط يده على نسخة من كتاب كان ابن عثمان قد أهداها له، يقول فيه على حاشية هذا الخبر، بأن الفقيه المقصود هو الشيخ "عبد الجليل بلقزيز" كما أخبره المؤلف نفسه بذلك.(24)
    ومع ذلك أورد "ابن عثمان" قصيدة في مدح بوجمعة المسفيوي باشا مدينة بني ملال، جاء فيها:
    قــالوا لنا لما نزلنا ربـوعكم
            وتوسموا سمة الغريب الهائم
    سيروا إلى الباشا الكريـم بداره
            يلقــاكم بطلاقـة ومكارم
    إلى آخر الأبيات.
    كما أورد قصيدة وجهها إليه معتذرا عن خلاف وقع بينهما (ولعله في الموضوع المشار إليه أعلاه) قال في مطلعها:
    أخـلى أنـك نعـم الخـليـل   
      وودك صـاف عـديم المثـيل
    جاء في آخرها:
    وقـد جـاء معـتـذرا لـكم
      حليف ودادك عـبـد الجليل(25)
    وقد سببت هذه المعارك وما ينتج عنها من انفعال وإضرار لابن عثمان محنا نفسية وعصبية، عبر عن بعضها في كتابه عندما ذكر أنه خلال أزمة من هذه الأزمات، خرج إلى المدينة قصد التخفيف عن نفسه، فإذا بطالب جامعي يصافحه ويقدم له ورقة عليها بيتان يحضان على لزوم الصبر في حالة الشدة، هما قول الشاعر:
    توقع صنع ربك سـوف يأتي
            بما تهـواه من فـرج قـريب
    ولا تيـأس إذ مـا ناب خطب
         فكم في الغيب من عجب عجيب
    فتفاءل بذلك خيرا، وعاد إلى بيته ليجد الأزمة قد انفرجت فعلا فعاد له هدوؤه وتوازنه.(26)
    ومع طغيان، الثقافة الأدبية على ابن عثمان، فإنه كان عالما متمكنا من باقي العلوم الشرعية. وقد اعترف له معاصروه بالتضلع في المعرفة والعلم، بعبارات تفيد ذلك، من قبيل: العلامة، الأصولي والمحدث، والمؤرخ والحافظ... ظهر ذلك في تآليفه، وما تضمنته من تفسيرات وتعليقات، وأهم هذه المؤلفات هي:
      1 – "الجامعة اليوسفية بمراكش في تسعمائة سنة".
      2 – "الرسالة التفسيرية".
      3 – "كوكب المدلج الساري في حدائق رجال البخاري".
      4 – "الرحلة الحجازية".
      5 – "شرح منظومة البطاوري في الوضع".
      6 – "المنتقى المقصور في مآثر ودولة أبي العباس المنصور" "لابن القاضي" (تصحيح وتعليق).
      7 – "ديوان الوزير ابن ادريس" (تصحيح وتعليق) وهذان الأخيران تمت الإشارة إليهما ضمن مؤلفاته قيد الطبع.
    - كتاب : الجامعة اليوسفية :
    حدد ابن عثمان الأهداف التي كان يتوخاها من تأليف هذا الكتاب في مقدمته، ويمكن تلخيصها كالتالي (بأسلوب المؤلف نفسه):
    - البر والإنصاف لما قدمته من إشعاع، وما كونته من وجالات.
    - إحياء الروح المعنوية فيها لتسترد مكانتها الأولى وتتصل بذلك حلقة الأحفاد بالجدود.
    - إن تاريخ المراكشي لم يتناولها من حيث التأسيس والتجديد، ولا من تخرج منها من أعلام أو عن العلوم التي كانت تدرس بها.
    - تعريف الشرقيين كذلك بمكانة الجامعة اليوسفية وبناء على طلب بعض أساتذة الشرق.
    وقد لاحظ المؤلف أن كتابه يتضمن بعض الثغرات سطرها بنفسه في نفس المقدمة:
    - إنه لم يعن فيه برشاقة الأسلوب وتنميق الألفاظ في غالب الأبواب والفصول. وذلك تمشيا مع منهجه في طرح السجع ولزوم الكتابة النثرية المرسلة.
    - تكرير بعض الكلمات بلهجة عامية.
    - عدم تنسيق أبوابه بصورة منظمة.
    - جعل بعض الحوادث الحاضرة من جوهر الكتاب، وهي حرية بأن تجعل من التعليق.
    لهذا كان بأمل إعادة طبعه ليتجاوز تلك الثغرات.
    وقد صمم ابن عثمان كتابه في الأصل في ثلاثة أجزاء:
    الجزء الأول: خصصه لتأسيس الجامعة وإشعاعها على عهد الدولة المرابطية والتعريف بأهم أعلامها وما كان يدرس بها من علوم ومعارف.
    وقد أطال في الحديث عن الدولة المرابطية وظروف نشأتها وتجميعها للقبائل الصنهاجية على يد "أبي بكر بن عمر" و"عبد الله بن ياسين"، ثم ما أنجزه أمير المسلمين "يوسف بن تاشفين"، بالمغرب والأندلس، وابنه "علي بن يوسف" مؤسس الجامع اليوسفي، الذي أصبح جامعة إسلامية يستقطب اهتمام طلبة جنوب المغرب وعلمائه، وقد شغل هذا التمهيد زهاء الثلث من صفحات الكتاب.
    أما الثلث الثاني منه فخصصه لمظاهر النهضة العلمية بالجامعة اليوسفية و"مدينة مراكش" من خلال الترجمة لأبرز الأعلام، وذكر مؤلفاتهم ومنجزاتهم الفكرية ومواقفهم العلمية وهم:
    - "أبو الوليد بن رشد الكبير".
    - "أبو عمرو عثمان السلالجي".
    - "أبو القاسم بن الجد".
    - "أبو عبد الله محمد بن أبي الخصال".
    - "أبو بكر بن القصيرة".
    - "أحمد بن العريف".
    - "أبو العباس أحمد بن الصقر".
    - "مالك بن وهيب".
    أما الثلث الأخير من الكتاب، فخصصه للحديث عن العلوم التي كانت تدرس بالجامعة اليوسفية، والمؤلفات المقررة بها وما كان يقدمه العلماء من شروح وتعليقات عليها وهي:
    - التفسير والحديث.
    - القراءة والرسم.
    - الفقه والأصول.
    - النحو واللغة.
    - البيان والبديع.
    - الطب.
    - التصوف.
    - التوحيد.
    وبذلك قدم المؤلف صورة مشرفة عن الجامعة اليوسفية، في عهد الدولة المؤسسة لها: دولة المرابطين.
    ووعد ابن عثمان بتتبع التاريخ العلمي للجامعة على مختلف العصور، وذلك بتأليف:
    الجزء الثاني: من تاريخ الجامعة اليوسفية يشتمل على عهد الدولة الموحدية، والدولة المرينية.
    الجزء الثالث: منه يشتمل على عهد دولة الأشراف السعديين، ودولة الأشراف العلويين.
    وقد بذل مجهودا كبيرا في كتابة الجزء الأول مضمونا وشكلا، فقد رجع إلى كل المظان المتوفرة في وقته، ووصلت يده إلى المخطوط منها مما كان محفوظا بالمغرب ومصر.
    ورغم غلبة النقل على الكتاب، فإنه لم يخل من تخريجات وتحليلات شخصية واستنتاجات مفيدة، كما أنه عرف بأعلام مغاربة وأندلسيين كانوا مغمورين، وذلك كله بأسلوب بديع، ومنهج أقرب إلى الدراسات المعاصرة من حيث اعتماد الهوامش، وذكر المصادر وصفحاتها وطبعاتها، وأماكن المخطوطات وأرقامها، مما يجعل هذا التأليف من البواكر الأولى للدراسات المغربية الحديثة.
    كما يتميز بحضور شخصية المؤلف بكل سلبياتها وإيجابياتها ووجود قضية يدافع عنها، ويحاول إقناع المتلقي بمشاركته في الإيمان بها.

    - نشر الكتاب :
    وقفت على كتاب الجامعة اليوسفية لأول مرة في أواخر الخمسينات وأنا تلميذ في المدرسة الابتدائية دون أن أفهم ما فيه أو أقدر قيمته، إذ كان من الكتب القليلة التي يملكها أخي الأكبر الطالب في الجامعة اليوسفية قبل استقلال المغرب، والذي كان من بين طلبة المؤلف بدون شك.
    ورجعت إليه كثيرا أثناء دراستي الجامعية، وكنت معجبا على الخصوص بشخصية صاحبه المتميزة عن غيرها من المؤلفين المعاصرين له، وكنت قد خرجت من تحضيري للدكتوراه بمجموعة من الموضوعات أخذت على نفسي الاهتمام بها، ومنها الجامعة اليوسفية، ونظرا لمرور أزيد من ستين سنة على تاليف كتاب "ابن عثمان" عزمت على إعادة نشره في المرحلة الأولى.
    وسأحاول تقديمه كما ألفه صاحبه مع الاهتمام بشرح ما ظهر أنه غامض من كلمات، والتعريف بالأعلام التي تحتاج إلى تعريف، وإرجاع نقول المؤلف إلى أصولها، والإشارة إلى عناوين الكتاب أسماء مؤلفيها وطبعاتها والصفحات التي استقى منها النقول... إلى غير ذلك مما يقوم به المحققون عادة. 
    وسألتزم في ذلك بالتركيز حتى لا يخرج الكتاب عما أراد له صاحبه.
    وقد فصلت بين الهوامش التي وضعتها شخصيا، وميزتها بالترقيم العادي المتسلسل من أول الكتاب إلى آخره، والهوامش التي وضعها المؤلف "ابن عثمان".
    كما التزمت بشكل ما استعصى وصعب من شعر وارد في الكتاب ووضع ما اختلف فيه من رواياته بين معقوفتين.
    وذيلته بفهارس توضيحية تيسر على القارئ سبل الاستفادة منه على أحسن وجه وأكمله.
    أما في المرحلة الثانية: فإنني أعتزم إن شاء الله تعالى إتمام الكتاب اعتبارا للمادة التي اجتمعت لدي عن هذه الجامعة خلال سنوات المطالعة والبحث، وسيكون ذلك على نفس النهج الذي خططه له ابن عثمان رحمه الله أي:
    - جزء ثان في تاريخ الجامعة خلال الدولتين الموحدية والمرينية.
    - وجزء ثالث في تاريخها خلال دولتي الأشراف السعديين والعلويين.
    وقد اخترت لهذين الجزأين العنوان التالي:
    "التكملة الوافية لكتاب الجامعة اليوسفية"
    أرجو الله تعالى أن ييسر إنجازه وطبعه خدمة للعلم والمعرفة وبرورا بواجب مسقط الرأس علينا. وهو على كل شيء قدير، ونعم المولى والنصير.
     
    1) تقريظ ابن المؤقت للكتاب ص: 276-278 .
    2) "التأليف ونهضته في القرن العشرين" ص: 169.
    3) "الجامعة اليوسفية" ص: 207.
    4) دافع عن الفكرة بحماس وأورد في هامش طويل ما يؤكد صحتها وعدم مساسها بحرمة القرآن الكريم. فالهدف منها: اتحاد خط المصحف بالخط الوضعي للغة الضاد... وذلك مجاراة للعمران، وترقية لخط المصحف... ص: 193، 194.
    5) "حوليات كلية اللغة العربية" عدد 3، ص: 184.
    6) "عشرة أيام في مراكش"، تحقيق "عبد المجيد بن الجيلالي" مقاربة دراسية لرحلات عبد الله الجراري ج: 2/47 و 88، مرقون بخزانة كلية الآداب الرباط سنة 1997.
    7) المصدر نفسه ج: 2/ 69، 104، 105، 146.
    8) المصدر نفسه ج: 21/69.
    دعوة الحق، س.43، ع364 /يبراي
    9) المصدر نفسه ص: 72، 73، 88، 123، 138.
    10) المصدر نفسه ص: 149 إلى 152.
    11) المصدر نفسه ص: 130.
    12) المصدر نفسه ص: 129.
    13) المصدر نفسه ص: 134.
    14) المصدر نفسه ص: 131.
    15) المصدر نفسه 33، 85، 143 (غادر مجلسا شرع فيه في الاستماع إلى الفونوغراف).
    16) وهو ظهير 8 شوال 1357 هـ موافق 1 دجنبر 1938 م والذي ينص على إجراء امتحان العالمية بمراكش.
    17) "حوليات كلية اللغة العربية" عدد 3/185 – 186 .
    18) "التأليف ونهضته في القرن العشرين" ص: 169.
    19) "ديوان شاعر الحمراء"، تحقيق: أحمد شوقي بنبين ص: 388.
    20) "الجامعة اليوسفية" هامش1، ص: 121 و122. قال: (... مع أنهم لو أنصفوا التاريخ لأدركوا الحقيقة، ولكن الحقائق مرة، لا يتجرع مرارتها إلا المنصفون وهم في مغربنا قليل، وهذا "أبو عمرو الفاسي" يرحل للجنوب كما رحل قبله أبو عمران إلى القيروان).
    21) "الجامعة اليوسفية" ص: 182 -183.
    22) "الجامعة اليوسفية" ص: 161.
    23) انظر مبحث التصوف من كتاب: "الجامعة اليوسفية" ص: 248 وما بعدها.
    24) "الجامعة اليوسفية" ص: 128، ولد بلقزيز بمراكش سنة 1900م وتوفي بها سنة 1967م.
    25) "الجامعة اليوسفية" ص: 211 – 212.
    26) "الجامعة اليوسفية" ص: 166.

    0 commentaires:

    إرسال تعليق