‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات خاصة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مقالات خاصة. إظهار كافة الرسائل
0

جامعة «القرويين» في طور جديد مجلة الوعي الإسلامي

Libellés :



في نهاية أكتوبر الماضي كانت جامعة القرويين على موعد مع إنجاز حضاري يضاف إلى مسيرتها الممتدة عبر السنين، حيث تخرج فيها أول فوج يحمل شهادة العالمية في العلوم، وضم نحو 29 طالبا كرمتهم وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، و«الوعي الإسلامي» تسلط الضوء على تلك المنارة الحضارية التي أثرت العلوم الإنسانية على مر التاريخ.
جامعة القرويين بمدينة فاس المغربية أول جامعة عرفها العالم، أنشأتها فاطمة الفهرية (أم البنين) في عهد دولة الأدارسة في رمضان عام 245هـ، 30 يونيو 859م، بإذن من العاهل الإدريسي يحيى الأول.
وقد سبقت جامعة القرويين جامع الزيتونة بتونس والجامع الأزهر بمصر، بل سبقت جامعات أوروبا بنحو 191 عاما، حيث تأسست أول جامعة في أوروبا وهي جامعة ساليرن سنة 1050م في إيطاليا، ثم أصبحت معروفة بمدرسة نابولي، ثم تأسست جامعة بولونيا للحقوق، ثم جامعة باريس، وقد اعترف بها لويس السابع سنة 1180، ثم تأسست جامعة بادوا سنة1222م، ثم جامعة أكسفورد سنة 1249م، ثم جامعة كمبردج سنة 1284، وجامعة سالامانكا في إسبانيا سنة1243م، وكذا الجامع الأزهر، فقد بناه جوهر الصقلي سنة 360هـ، ولم يتخذ معناه الجامعي إلا سنة547هـ، فـ«القرويين» أقدم من الأزهر بـ125عاما، وأقدم منه جامعة بـ302 عام.

بدايات وأهداف

بعد بناء الجامع قام العلماء بإنشاء حلقات لهم فيه، وكان يجتمع حولهم العديد من طلاب العلم، وبفضل الاهتمام الفائق بالجامع من قبل حكام المدينة المختلفين تحولت فاس إلى مركز علمي ينافس مراكز علمية ذائعة الصيت كقرطبة وبغداد، ودخل «القرويين» مرحلة الجامعة الحقيقية في العصر المريني، حيث بنيت العديد من المدارس حوله، وعزز الجامع بالكراسي العلمية والخزانات، وتمحورت الدراسة في «القرويين» في مرحلة البدايات حول العلوم الدينية، ومع اتساع العمران بالمغرب وكثرة الوافدين إليها، تطورت الدراسة وتحول الجامع إلى جامعة، وشملت علوما أخرى تهدف إلى أغراض سياسية واقتصادية واجتماعية، فكانت هناك دراسة الفلسفة والطب والصيدلة والطبيعة والفلك والهندسة.

الأدوار الاقتصادية

مثلت «جامعة القرويين» مصرفا من مصارف الخير والإنفاق لعموم أهل المغرب وخاصتهم، ومن ثم توسعت وتطورت حتى صارت مؤسسة مستقلة عن خزينة الدولة، بل تنافس ميزانية الدولة، حتى إن الدولة اقترضت من خزينتها في كثير من الأحيان عند الأزمات الداخلية، وعند ظروف الحرب التي فرضت على البلاد، وعند بناء المرافق والجسور الحيوية، وفاضت أوقاف القرويين على سائر مساجد فاس، بل وصلت أوقافها الزائدة إلى المسجد الأقصى بالقدس، والحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة.

أدوار مجتمعية

وفي أوقات الضيق الاقتصادية لعبت أوقاف القرويين دورا تكافليا بارزا داخل المجتمع، فشملت مشاريع الإحسان والبر في كل النواحي الإنسانية، وفي ذلك يشير المؤرخ المغربي عبدالهادي التازي في كتابه عن جامعة القرويين إلى أن «قاضي فاس عندما شب الحريق في وثائق حجج الوقف سنة 723هـ، أمر بضم أملاك فاس كلها إلى القرويين، ولم يستثن من ذلك إلا من قدم شهادة تثبت الملكية من قبل جهة الوقف» وهو ما قام به أيضا السلطان أبوسعيد المريني والمولى الرشيد في أواخر دولة السعديين والمولى سليمان العلوي.. ومن تلك الأوقاف التي دعمتها «القرويين» بشكل مباشر أو غير مباشر؛ وقف للتزويج، ووقف للدواب المرضى، ووقف الحمامات، والمرستانات (للمجانين)، ووقف الموسيقى(الأندلسية)، وأوقاف العرائس (لتجهيز العرائس الفقيرات)، ووقف الأواني (للخدم الذين كسروا آنية من الفخار ليأخذوا بدلها سالمة)، ووقف الديون (القرض الحسن)، ووقف الطيور.

الأدوار العلمية

يمتد الإشعاع العلمي للقرويين منذ العصر الإدريسي إلى الآن، ولم يقتصر التدريس على العلوم الشرعية، بل اتسع ليشمل باقي علوم الحياة والعلوم العقلية والطبية، وانتشرت في أرجاء القرويين كراسي العلم وخصصت لها أوقاف، واعتبر كرسي العلم في جامعة القرويين ولاية حكومية عليا كالوزارة والقضاء والفتوى.
وتقدم الجامعة دروسها للجميع من طلاب وحرفيين، ومحاضرات يحضرها الرجال والنساء والأطفال، والولاة والقضاة ، وقد تخرج فيها عدد كبير من فقهاء المذاهب الفقهية السنية، مع التركيز على المذهب المالكي، لأنه المذهب الاجتماعي السائد في البلاد، وتعين هيئة التدريس بأوامر سلطانية، وتحصل على مرتباتها الرسمية من إدارة الحبوس «الوقف»، وكثيرا ما يتدخل السلطان لتحديد البرامج الدراسية واستبعاد المواد التي لا تلائم التوجه الديني السلطاني، ولم ينحصر الإشعاع العلمي لفاس عامة وللقرويين خاصة على الذكور، بل نبغت عالمات وأديبات وسياسيات وفقيهات وقارئات ومحدثات.

الأدوار السياسية

لم يقتصر دور جامعة القرويين في تيسير العلوم بأنواعها، وإنما كانت مهد الثورة على الظلم ومنطلق الجهاد ضد المستعمر، وهو الواقع الذي دفع الجنرال الاستعماري الفرنسي «ليوتي» إلى نعتها بالبيت المظلم، وكان يتساءل حسب المصادر التاريخية: «متى سيغلق هذا البيت المظلم؟»، لأن جامع القرويين أفشل مخططاته في التفريق بين العلماء والسلاطين، وبين علوم الدين والدنيا بالمغرب، كما أن الاحتجاجات وتعبئة الفدائيين للجهاد تنطلق شرارتها من منبر القرويين.

مشاريع الإصلاح

عمل الاستعمار الفرنسي على محاربة جامعة القرويين وبعدما فشل في ذلك لجأ إلى محاولة احتوائها، وإجهاض دورها بشتى السبل، وخطط للتعليم الذي يخرِّج أناسا يؤمنون بمفاهيم الغرب ويحتقرون ثقافة الأمة، ويقول R.Gaudefroyطرحت قضية إصلاح القرويين بمجرد إقامة الحماية الفرنسية على المغرب، وبداية اهتم به المثقفون المغاربة لأنهم رأوا فيها نهضة للدراسات الإسلامية، واستهدفت فرنسا من إصلاح القرويين تجميع طلبة المغرب وممارسة نوع من التوجيه الروحي عليهم بكل سهولة، ولهذا فإنه حينئذ لا يمكن أن يسمح للمغاربة بإنشاء جمعيات للتعليم الإسلامي الحر، الذي تتعذر مراقبته، كذلك سعت فرنسا للظهور بمظهر المحافظ على التراث والعلوم الإسلامية». واستهدف الفرنسيون من ذلك تحقيق نتائج على الصعيد الداخلي، منها أن أبناء الطبقة الميسورة سينجذبون إلى دروس القرويين، ويلازمون فاس بدل ارتياد جامعات إسلامية خارج حدود الوطن.
ونظرا لما تضمه جامعة القرويين من جميع أنواع التعليم من الابتدائي إلى الجامعي، سعى المستعمر لبناء تعليم جامعي مواز للقرويين؛ فتم تأسيس معهد عال تحت اسم «المدرسة العليا الفرنسية البربرية» سنة 1914م ثم تحول سنة 1920م إلى «معهد الدراسات المغربية العليا» حيث احتلت دراسة اللهجات البربرية والإثنوغرافيا والفلكلور المغربي مكان الصدارة فيه، وقد تحول هذا المعهد إلى كلية للآداب والعلوم الإنسانية بعد الاستقلال.
ورغم ما أحدثته الحماية الفرنسية من إحكام قبضتها على جامعة القرويين وأساتذتها والتحكم في إدارة الجامعة وتسييرها، بعد أن استشعرت الدور الخطير الذي تقوم به القرويين، فأنها لم تستطع القضاء تماما على هذا الصرح العلمي الشامخ - وإن نجحت بوسائلها الخبيثة في احتوائه وعزله وإضعاف دوره، وقبل أن يخرج الاستعمار الفرنسي من المغرب سنة 1956 أنشأ مدارس للتعليم العصري لمنافسة القرويين وإضعاف دورها في بناء شخصية مغربية محافظة على أصالتها وعروبتها.

غرس الروح الوطنية

وعلى النقيض من تلك المحاولات التغريبية سعت الحركة الوطنية لإصلاح جامعة القرويين برؤى وطنية قد انبثقت من حلقات جامعتي القرويين وابن يوسف، فكانت دروس الزعيم علال الفاسي تحمي الروح الوطنية، وتحاصر الأفكار الاستعمارية، وقد عرفت هذه الجامعة تحولات عميقة بعد الاستقلال، فبعد الاستقلال مباشرة تم إدخال بعض الإصلاحات على نظام هذه الجامعة بهدف تأهيلها لتؤدي دورها العلمي، وفي سنة 1963م صدر ظهير تم بموجبه تعزيزها بثلاث كليات تابعة لها وهي: كلية أصول الدين بتطوان، وكلية اللغة العربية بمراكش، وكلية الشريعة بفاس، وفي سنة 2004 تم إلحاق نظام التعليم العتيق بالتعليم الرسمي العام.

ذخائر المعرفة

وتعتبر مكتبة القرويين من أعرق مكتبات العالم العربي، إذ تضم مخطوطات يعود تاريخ كتابتها إلى القرن الثامن الميلادي، كما تضم مخطوطات فريدة بعضها بخط مؤلفيها، من بينها مؤلفات لابن خلدون وابن طفيل وابن رشد، ومؤلفات مختلفة لبعض ملوك المغرب، ففي جامع القرويين كان يدرس - إلى جانب الفقه والتفسير - علوم الرياضيات وعلم الفلك وعلوم أخرى مشابهة، وقد جلبت أو نسخت كل المؤلفات التي تعالج هذه العلوم مما زاد رصيد المخطوطات في المغرب، وبلغ عدد المخطوطات في القرويين نحو 30.000 مجلد ومخطوط، ومن أبرز نفائس خزانة القرويين أجزاء من موطأ مالك (ت179هـ)، كتبت لخزانة علي بن يوسف بن تاشفين المرابطي على رق الغزال، وكتاب سيرة ابن إسحاق (ت 151هـ) كتب سنة 270هـ، وهو أقدم ما يوجد بالخزانة، والمصحف الأكبر الذي حبسه السلطان أحمد المنصور الذهبي على الخزانة عند تدشينها سنة 1011 هـ، كما يوجد بها كتاب العبر لابن خلدون ( ت808 هـ) الذي ألف باسم السلطان أبي فارس المريني، وأهدي إلى خزانة القرويين في صفر من عام 799 هـ.

مستقبل القرويين

يقول وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربي عبدالكبير العلوي المدغري - بمناسبة تخرج الدفعة الأولى من طلاب الشهادة العالمية في نهاية أكتوبر 2008: ستسعى «القرويين» خلال المرحلة المقبلة إلى تأهيل علماء متمكنين من علوم الشريعة للقيام بالدعوة إلى الله والوسطية والاعتدال والتسامح والمرونة، وبالتالي سيشكلون درعا واقيا للمجتمع، وكذلك فسنسعى لتقوية مناهج ومسار التعليم الأصيل بالجامعة ليكون جسرا ما بين التعليم العتيق والتعليم العصري، ومن المتوقع أن تصدر قريبا عدة مراسيم تنظم الدراسة في جامعة القرويين في جميع المراحل ليكون هذا النوع من التعليم منسجما مع العصر.

0

بحث تطور جامعة القرويين

Libellés :


منظر عام لمدينة فاس القديمة من أحد المرتفعات القريبة، ويظهر جامع القرويين في وسط الصورة. 
جَامعَةُ القَرَوِييِّن من أقدم الجامعات الإسلامية ومقرها مدينة فاس بالمملكة المغربية. وقيل في تأسيسها إنَّ فشل ثورة الفقهاء على الحَكَم بن هشام الأموي الأندلسي (180 - 206هـ، 796 - 821م) أدى إلى هجرة أفواج كبيرة من العلماء وطلاب العلم وعامة الناس من الأندلس إلى مدينة فاس المغربية، هربًا من بطش الخليفة الأموي. وكان إدريس الأول قد شرع في تأسيسها، فاستقبلهم ورحب بهم، وخصص لهم القطاع الشرقي من فاس، وذلك في ربيع الأول من عام 192هـ، يناير 808م، فَعُرفَ منذ ذلك الوقت بعروة الأندلس، أو حي الأندلسيين، وانتفع بخبرتهم وصناعتهم، وخصص في العام التالي الجانب الغربي لإقامته مع فريق آخر من القيروانيين، ونُسبَ هذا الجانب من المدينة لهؤلاء السادة، وهكذا أصبحت فاس مدينتين: مدينة الأندلس، والمدينة العظمى التي يسكنها القيروانيون، وهؤلاء هم الذين تسميهم الكتب القديمة بالقرويين، ميلاً للتخفيف من بعض الحروف.

كثر الواردون على مدينة فاس، وصار الناس في حاجة إلى مسجد جامع كبير لأن مسجد الشرفاء بالعروة الغربية، ومسجد الأشياخ بالعروة الشرقية اللذين أسسهما السلطان المغربي إدريس الثاني لم يعودا يتسعان للمصلين، فتطوعت فاطمة بنت محمد بن عبد الله الفهري القيرواني ببناء مسجد جامع بحي القيروانيين، عرف في التاريخ بجامع القرويين ثم جامعة القرويين، نسبة إلى هذا الحي.


تطور جامعة القرويين. كان الشروع في حفر أساس جامع القرويين في الأول من رمضان عام 245هـ، 30 نوفمبر عام 859م. وكان طوله 39م، وعرضه 32م، وبلغت مساحته 1,248م². وتألَّف من أربعة أساكيب (الأروقة العرضية الموازية لجدار القبلة). امتدت من الغرب إلى الشرق، واثنتي عشرة بلاطة (البلاطة المسافة المحصورة بين أربعة أعمدة. وأُطلق اسم بلاطات فيما بعد على الأروقة الرأسية أي التي تتجه متعامدة نحو جدار القبلة) امتدت من الجنوب إلى الشمال. وعندما ضاقت ضاحية القرويين بعد نحو قرن من تأسيسها، قرر الأمير أحمد بن أبي بكر الزناتي توسعة جامع القرويين، وكتب بهذا الشأن إلى أمير المؤمنين عبدالرحمن الثالث الأموي الأندلسي (277 - 350هـ، 890 - 961م) يقترح عليه الإسهام في هذا المشروع، واعتبرها العاهل الأموي تكريمًا وتشريفًا من حليفه الزناتي، فبعث بقدر كبير من تكاليف التوسعة. وأصبحت المساحة الكلية للجامع نحو 3,996م²، أي بزيادة 2,748م².

استقر الرأي في أوائل القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي) ـ إثر مؤتمر ضم العلماء ـ على أن يعهد للقاضي عبد الحق بن معيشة بأمر إصلاح جامع القرويين وتوسعته. فأخطر القاضي العاهل المرابطي علي بن يوسف ابن تاشفين (500-537هـ، 1106-1143م)، ثم قام بشراء كثير من الأملاك المجاورة للجامع شرقًا وغربًا، وضمها إلى الجامع لتصبح مساحته الكلية هذه المرة 5,846م²، أي بزيادة 1,850م²، وهي مساحته الحالية.

إذا كان جامع القرويين ـ سواء في التوسعة الأولى أو الثانية ـ قد تميز بالزيادة في المساحة، فإنه على عهد الموحدين والمرينيين والوطاسيين والسعديين امتاز بالتأثيث وتعدد المرافق، فازدان بالثريات الكبرى والأجراس الأسبانية، وأُضيفت إليه غرفة للمؤذنين ومرافق أخرى جديدة خاصة برجال القرويين، مثل الصومعة، ومحكمة القاضي، والخزانة، والمدارس. وأعيد النظر في مرافقه على عهد العلويين، وأُصلحت سائر جوانبه.


جامع القرويين أول جامعة بشمالي إفريقيا. امتاز الفتح الإسلامي من بين الفتوحات الأخرى بأنه جاء يحمل كتابًا وسنة، ولذلك نرى أن التعليم الإسلامي كان في مقدمة اهتمامات الفاتحين. ولما كان المسجد هو المركز الأساس لجمع المؤمنين، فقد أصبح المعهد الأول للدراسات الإسلامية. وكان مسجد قباء أول معاهد التعليم في الشرق الإسلامي، كما أن أول معهد بالشمال الإفريقي كان في القيروان. وتبعت بعد ذلك مساجد انتشرت في ربوع العالم الإسلامي كجامع الزيتونة بتونس، وجامع الأزهر بمصر وجامع سنكري (تمبكتو)، إلخ. بيد أن هذه المساجد لم تظل جميعًا باستمرار مراكز للتعليم، وكان جامع القرويين بفاس من بين المعاهد العلمية التي ظلت تقوم بدورها التعليمي منذ إنشائها إلى زماننا هذا، بل يُعد أقدم جامعة علمية في العالم. وذلك بدليل أن جامعة بولونيا الإيطالية أسست عام 1119م، 513هـ، وجامعة أكسفورد الإنجليزية عام 1229م، 627هـ، وجامعة السوربون الفرنسية أُسست في القرن الثالث عشر الميلادي، وتم بناء مبناها في القرن السابع عشر الميلادي.


المقررات الدراسية بالقرويين. كانت للمغرب العربي جهوده العلمية الخاصة به، وقد أضاف إليها علوم المشرق العربي، في كلًّ من الحجاز والعراق والشام ومصر. وقد عُنيت جامعة القرويين في مراحلها الأولى بالعلوم العربية الإسلامية. ولمّا كان الفقه من أهم العلوم الإسلامية، فقد شُغلت به جامعة القرويين التي تبنَّت مذهب الإمام مالك، وعملت على إذاعته ونشره. وأصبحت آراء مالك ومؤلفات تلاميذه تحتل زوايا القرويين. واستمر المذهب المالكي في ازدهار متوال طوال أيام السلطنة المرابطية. وكان للفقه كتبه الأساسية التي تدرس في هذه الجامعة، وفي مقدمتها موطأ الإمام مالك بن أنس، وهو كتاب حديث صنفت أحاديثه في ضوء الموضوعات الفقهية كما هو معروف. وتليه المدونة وهي 36,000 مسألة سُئلها مالك وأجاب عنها، وقد نقل ذلك أسد بن الفرات عن ابن القاسم المصري تلميذ مالك، ثم عرضها عليه القاضي مرة أخرى للتثبت من بعض الأقوال، وكان ذلك في أواخر القرن الثاني الهجري (أواخر القرن الثامن الميلادي). واعتمد في القرويين أيضًا وغيرها من معاهد المغرب مؤلفان آخران من النوعية ذاتها، هما أجوبة مالك عن أسئلة نقلها أندلسيون عن تلاميذه المصريين في الفترة ذاتها تقريبًا، عرفت بالعتبية والمستخرجة وهو الأشهر. وبعد ذلك بأمد قصير، أي في النصف الأول من القرن الثالث الهجري (النصف الأول من القرن التاسع الميلادي) عُرف تصنيف لابن المواز محمد بن إبراهيم بن رباح الإسكندراني، وهو كتاب مسائل أيضًا، ولكنه تميز عن المؤلفات السابقة من ناحية المنهج، إذ أن الكتب السابقة ليست إلا جمعًا لروايات وسَمَاعَات، بينما بنى ابن المواز فروع أصحاب المذهب على أصولهم.

واختصر عبد الله بن أبي زيد (ت 386هـ، 996م) المدونة المغربية، والمستخرجة الأندلسية عام 327هـ، 938م تيسيرًا لطلاب العلم، وقلده من بعده تلميذه أبو القاسم خلف الأسدي المعروف بالبرادعي، فوضع التهذيب في اختصار المدونة. ودرّس طلاب القرويين ـ أيضًا ـ كتبًا في الحديث مثل الصحيحين وسنن الترمذي وأبي داود.

وتعد فترة الدولة المرينية من أزهى فترات القرويين، حيث تنوعت المواد الدراسية نتيجة لكثرة الوافدين على فاس. لقد كانت هنا كراسي العلوم الدينية إلى جانب كراسي العلوم الإنسانية من تاريخ وأدب إلى جانب العلوم الطبيعية والرياضية.


موارد الإنفاق على المدرسين. بلغت ميزانية جامع القرويين منذ أوائل القرن السادس الهجري، أواخر القرن الثاني عشر الميلادي 80,000 دينار، أي ما يساوي 1,600,000 من الدراهم المغربية الحالية. ويدل هذا على المورد الخصب الذي كان ينعم به المدرسون في ذلك العهد.


رئيس الجامعة والمفتي. يذكر التاريخ أن المباشر الأول لشؤون القرويين، والمسؤول عن سائر أوجه النشاط فيها هو قاضي المدينة، فهو رئيس الجامعة الذي له الحق في تخويل الكراسي العلمية لمن يراه أهلاً لذلك من العلماء، وهو الذي ينصّب أئمتها ويراقب نشاطهم، بل هو الذي يشرف على أعمال البناء فيها ويدير ميزانيتها. وظهرت فيما بعد وظيفة جديدة بالقرويين، تلك هي وظيفة المفتي، الذي كان له مقر خاص بالقرويين، وكان يسند إليه جانب مهم من الأوقاف يصرفه باجتهاده في مشاريع البر التي تظهر له من خلال معايشته مشاكل الناس.


نظام الدروس والإجازة العلمية. درج الطلاب على أن يتحلقوا حول أساتذتهم في حلقات متعددة، قد تبلغ العشرين حلقة أو تزيد، وربما جلس بين الطلاب علماء رأوا أن من المفيد لهم الاستماع إلى وجهة نظر خاصة لشيخ مجتهد. وربما استمر الدرس الواحد من الشروق إلى الزوال. ويغلب أن يخصص الصباح الباكر للعلوم الشرعية وما بعد الزوال للعلوم الأخرى. وكان أمد هذه المرحلة الدراسية لا يتجاوز سبع سنوات. وكان على هيئة الأوقاف إيواء الطلاب وإعاشتهم. ويتمتع الطلاب بعطلات تتفاوت مددها؛ فإلى جانب يومي الخميس والجمعة، كانت الدروس بالقرويين تعطل أيام الصيف نحو الشهرين ولمدة أسبوعين في الربيع، وأضيفت هذه الأخيرة على عهد العلويين.

ومن أبرز ما عرفته جامعة القرويين في فترة المرينيين والوطاسيين والسعديين (648 - 1076هـ، 1250 - 1665م) نوعٌ من الامتحان الذي يجرى الآن في الدول الحديثة لتخريج الأساتذة المبرزين، وذلك هو نظام الإجازة وكان امتحانًا عسيرًا لا يجتازه سوى الأكفاء.



منظر لمدينة فاس يظهر في مقدمة الصورة سقوف جامعة القرويين، وجانب من ساحة الجامع. 
جامعة القرويين في العصر الحديث. عندما احتلت فرنسا المغرب، رأت أن تطمئن على ما يجري داخل القرويين لما لها من نفوذ في الحياة الاجتماعية والدينية والثقافية والسياسية في البلاد المغربية، ففصلت السلطة الفرنسية إدارة القرويين عن نظر قاضي المدينة ـ رئيس الجامعة ـ وشكلت مجلسًا برئاسة المسيو مرسيه والقبطان ميلي في يوم الخميس 21 جمادى الثانية عام 1332هـ، 17 مايو 1914م. وصدر مرسوم عام 1350هـ، 1931م ينص على أن مراحل التعليم بالقرويين ثلاثة: الابتدائي والثانوي والنهائي. ويشتمل الأخير على قسمين للتخصص الديني والأدبي. وتعرَّض العلماء الشباب للحرمان من اعتلاء الكراسي العلمية سنة 1351هـ، 1932م، لأن صرخة الاحتجاج ضد سياسة الحماية البربرية قد انطلقت من زوايا القرويين. وأدرك الطلاب أن الوضع الحاضر يسير بهم إلى النهاية، فأضربوا عن الدراسة سنة 1356هـ، 1937م، واستطاع العاهل المغربي أن يحصل على شبه وفاق، عين بموجبه خريج من جامعة السوربون وأحد قدماء طلبة القرويين معززًا لشيخ جامعة فاس، ودأب المجلس الأعلى برئاسة العاهل المغربي يهتم بالمعاهد الإسلامية الجديدة لكن توقيع المطالبة بالاستقلال سنة 1364هـ، 1944م، كان كافيًا للزج بالمنتسبين للقرويين في السجون، وضاعت محاولات اللجنة الملكية للإصلاح سنة 1367هـ، 1947م أدراج الرياح. وكان المشروع الذي ينطوي على نوايا الفرنسيين، والذي أعده الجنرال جوان عام 1371هـ، 1951م فرصة للانتقام من جامعة القرويين باعتبارها مناهضة لمشاريع الاستعمار وأعوانه. وكل الذي كسبته جامعة القرويين في فترة الحماية إنشاء معهد للفتيات يؤهل للعالمية.

عندما حصلت الدولة المغربية على استقلالها وجدت نفسها أمام جيل متباين التكوين: فريق قصرت ثقافته على الدراسات العربية الإسلامية، وفريق قطعت صلته بهذه الدراسات وقصرت على اللسان الأجنبي وعلومه، فقررت اللجنة الملكية الجديدة سنة 1377هـ، 1957م توحيد البرامج الدراسية لجميع المدارس، بما في ذلك أطوار التعليم بالمعاهد الدينية. وسلم الملك المغربي جامعة القرويين لوزير التربية الوطنية وطلب إليه أن يجعل من القرويين نموذجاً جامعيًا حيًا بدلاً من المدارس العتيقة. ثم تأسس المجلس الأعلى للتربية الوطنية فخطا الخطوات الحاسمة سنة 1380هـ، 1960م. وهكذا انصرفت الجهود إلى تحقيق مبدأ التوحيد في مرحلة أولى للتعليم تكون بمنزلة جذع مشترك تتفرع منه مرحلة ذات شعب في السلك الثانوي الثاني، تفضي حسب مادتها إلى الدراسة في كلية الشريعة أو كلية الآداب أو كلية العلوم، وهذه الكليات هي التي احتضنتها مؤخرًا جامعة القرويين.

0

د. محمد السرار: جامعة القرويين مصدر الثقافة الإسلامية في المغرب

Libellés :


عندما يتصفح الإنسان مصادر الحديث الشريف بتمعن يجد حلاوة فائقة في رحلته مع سيد الخلق وهو يشير ويقرّ وينهي ويثبت، لكن يصبح للأمر طعم أخرى حين نستقي الحديث وعلومه من أهل الاختصاص دون وسائط، وكم نحن سعداء أن نحاور أحد العاملين في حقل الحديث الشريف وعلومه! سعداء بهذا اللقاء مع الأستاذ الدكتور محمد السرار الباحث في الحديث الشريف والسيرة النبوية.
** د. محمد السرّار وقبل الحديث عن السيرة والإنجازات والطموح أو عن أي منابر وفضاءات علمية بالمغرب، دعنا نطوي الروتين ونقفز على المألوف في مثل هذه الحوارات، ونسأل عن حال القرويين اليوم؟
- بالنسبة للقرويين كما تعلمون هي من الجامعات القديمة في العالم الإسلامي، ومرت القرويين بمراحل منها التطور ومنها التجديد.. القرويين كانت هي المحضن للثقافة الإسلامية بالمغرب، وهي التي صبغت الثقافة الإسلامية بالمغرب بصبغة معينة، كانت القرويين ميدانًا للدرس ميدانًا للبحث في مختلف العلوم، العلوم الشرعية، العلوم اللغوية، علوم البحث من رياضيات ومنطق، أهم الإضافات التي أضيفت إلى المعرفة الإسلامية من طرف علماء المغرب أضيفت في هذا الصرح.
حينما نتحدث عن القرويين، فإننا نتحدث عنه باعتباره جامع القرويين وهو الذي ذكرناه، ثم جامعة القرويين وهي إطار جديد تابع لوزارة التربية والتعليم العالي وتتبعها كليات أربع بجهات المغرب؛ كلية الشريعة بفاس، وكلية أصول الدين بتطوان، وكلية الشريعة بأكادير، وكلية اللغة العربية بمراكش. هذه الكليات الأربع تحاول أن تعيد دور القرويين في الإشعاع الثقافي والعلمي، ثم هنالك أيضًا مجال آخر تُذكَر فيه القرويين وهي الكراسي العلمية الحديثة والتي استحدثتها وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالمغرب مشكورة، وهذه الكراسي ما تزال مستمرة إلى الآن، وقد تخرّجت فيها أفواج بدرجة العالمية، وهذا مشروع طموح يحتاج إلى زيادة دعم فيما يتعلق بالأطر التي تُدرِّس وفيما يتعلق بظروف الطلبة وفي ما يتعلق بالتلقين، هذا بإجمال ما يمكن أن يقال عن القرويين.
** هل هي عوامل أسرية أم هو المحيط أم هي عوامل ذاتية.. تلك التي حملت الدكتور إلى رحاب علم الحديث الشريف، لينال هذا الشرف الكبير بخدمته لثاني مصادر التشريع؟
- في الحقيقة بالنسبة لي هذا الميل إلى الحديث الشريف كان بسبب المحيط القريب، محيط العلماء آل ابن الصديق الذين يجاوروننا بالعرائش وطنجة؛ فإشعاعهم العلمي وخصوصًا فيما يتعلق بخدمة الحديث النبوي الشريف وصل إلى عدة مدن وجهات. وقد كان لهم هذا التأثير الأوَّلي في ذلك الوقت، فالقرب منهم والتأثر بهم حملنا على السير على هذا النهج.
** المقلب لصفحات العلم وأعلام المغرب يجدها زاخرة زهية بالأفذاذ الذين تركوا بصماتهم في المغرب والمشرق، وذلك في مختلف المناحي العلمية من قراءات وحديث وتفسير ولغة وفقه.. لكن السؤال المحير أين هذه الكفاءات اليوم؟ هل تراها ركنت إلى القطرية وزهدت فيما دونها؟ أم هو التعتيم؟ أم أنّ المغرب نضبت خيراته؟
- المغرب -والحمد لله- بلد معطاء وأرض ولود، والخير لا ينعدم بجميع أقطار المسلمين، فقد يقل العلماء أو قد يقل بعض المتخصصين في مجال من المجالات في فترة زمنية معينة، ثم يُعاود أهل تلك الجهة النهوض، على كل حال الكفاءات العلمية موجودة بالمغرب كثيرة ومتنوعة، ويُنظَر إليها بتقدير كبير من إخواننا المشارقة، وهذا ما نلمسه حينما تصلنا أخبارهم، وحينما تحتك بهم الكفاءات العلمية عند زيارتها للمشرق أو حينما يزور إخواننا المشارقة المغرب فإنهم يعبرون عن مدى إعجابهم بهذا الكمّ الهائل والنوعي.
ولهذا، فالأسماء التي تحضرني كثيرة جدًّا فيما يتعلق بالكفاءات العلمية الكبيرة جدًّا، لكن المجال لا يتسع لذكرها جميعًا، هي في الحقيقة كفاءات معروفة لا يمكن في الحقيقة في مجال السيرة أن يغفل اسم كالدكتور سيدي محمد إسداف، فيما يتعلق بالقواعد لا يمكن للإنسان أن يتجاوز الأستاذ سيدي محمد الروكي، فيما يتعلق بالمقاصد أول من يطالعك اسمه الدكتور سيدي أحمد الريسوني، فيما يتعلق بعلم الحديث لا تستطيع أن تخفِي اسم الدكتور سيدي الحسين أيت سعيد محقق كتاب بيان الوهَم والإيهام، فيما يتعلق بالفكر الإسلامي الحديث والمذهب الأشعري وغير ذلك من المجالات والتأطير العلمي للعمل الاجتماعي لن يغيب اسم الدكتور سيدي مصطفى بن حمزة، وفيما يتعلق بعلم القراءات نجد اسم العلامة الشيخ سيدي عبد الهادي حميدو.
ثم نجد أيضًا الأستاذ العلامة سيدي مولاي مصطفى البويحياوي، الذي تنفتح عليه بعض القنوات المشرقية وخصوصًا الشارقة، فيما يتعلق بالدراسات المصطلحية نجد شيخ الدراسات المصطلحية في العالم العربي الدكتور سيدي الشهد البوشيخي، فيما يتعلق بالإضافات الجديدة في تفسير القرآن الكريم والدراسات المفاهيمية له والإبداع في هذا المجال نجد الدكتور سيدي أحمد العبادي، مع الانفتاح على الثقافات الأخرى الغربية والإجادة التامة لبعض لغاتها. أنا أعتذر لجميع الذين غابت عني أسماؤهم الآن في هذا الحوار، كذلك لا يمكن أن نغفل المبدع في مجال المنطق العلامة المنطقي الكبير الدكتور طه عبد الرحمن فيما يتعلق بالتراث والمعرفة به والمعرفة بالخطوط وغير ذلك، ولا يمكن أن نتجاوز شخصية مثل الشيخ سيدي محمد بوخبزة، أطال الله في أعمارهم جميعًا، وهؤلاء غيض من فيض، القليل من الكثير.
أما إذا ذهبنا إلى المجالات الأخرى مجال الدراسات في الأندلسيات واللغة التي تعد من العلوم الخادمة للعلوم الإسلامية، فإننا سنجد كمًّا هائلاً، وهنا لا يفوتني أن أشيد بشيخ فقهاء وأئمة المغرب وإمام أئمتهم العلامة الأصولي الكبير الدكتور سيدي محمد التاويل. إذن فهذه الكفاءات العلمية الكبيرة كفاءات قلَّ أن يوجد لها نظير؛ لهذا فإن المغرب بلد معطاء لا يوجد به تعتيم أبدًا، فالمواقع الإلكترونية الآن زاخرة بأعمال هؤلاء، موقع إسلام أون لاين مثلاً منفتح على د. العلامة الفقيه سيدي محمد التاويل وفتاويه تعم الأرض، وبالنسبة لسيدي أحمد العبادي يدير موقع الرابطة المحمدية للعلماء، إضافةً إلى انفتاح القناة السادسة على الكثير من هذه الكفاءات، التعتيم غير موجود فالمغرب زاخر بالعلماء، إنما ينبغي أن تُصرف العناية إليهم، هم موجودون وكفاءتهم ظاهرة فلا بد أن يلتفت إليهم، وفي الختام أعتذر مرة أخرى لجميع السادة العلماء والباحثين الأكفاء الذين غاب عني ذكر أسمائهم بسبب ضيق الوقت، وإطار هذا الحوار المرتجل، وقد ذكرت من حضر في ذهني على عجل.
** كيف ينظر الدكتور السرار إلى علم المقاصد وتطوره من الشاطبي إلى ابن عاشور وصولاً إلى الريسوني؟
- في الحقيقة علم المقاصد كما ذكرتِ وكما هو واضح من هذه الأسماء التي ذُكِرت، كاد أن يكون علمًا اختص به أهل المغرب العربي من الشاطبي الأندلسي إلى الشيخ ابن عاشور التونسي إلى الدكتور سيدي أحمد الريسوني المغربي، فهو كاد أن يكون من اختصاص أهل هذه الجهة. كما تعلمون أنّ الإمام الشاطبي يُعدُّ أكثر من لفت الأنظار إلى المقاصد، بالنسبة للشيخ الطاهر بن عاشور له مؤلف رائد في المقاصد، ودعا فيه إلى جعل علم المقاصد علمًا مستقلاًّ، بالنسبة لمن جاء بعد الشيخ الطاهر بن عاشور وعلى رأسهم الدكتور سيدي أحمد الريسوني، فإنّ هذا الأخير يحاول من خلال المقاصد أن يؤصِّلَ قواعد المقاصد وأن يبتدع مجالات أخرى لها، وأن يُرجِع أفعال المكلفين التي طرأت والتي تجددت إلى المقاصد، وأن يُستَعمَل الفهم المقاصدي في المعالجة الفقهية لهذه المستجدات، وهذا الفهم بالنسبة لي هو الأقدر على التوصل إلى أصوب الأحكام وإلى أولاها بالاتباع، وأسلمها من الأخطاء والزلل.
** بما أنّ الدكتور رجل اختصاص، هلاَّ أماط لنا اللثام عن "همس" يدور في حظائر العلم مفاده أن هناك جفاء تاريخيًّا بين أهل الحديث وفقه المقاصد؟
- هو في الحقيقة لا يوجد هنالك ما تذكرونه من جفاء بين الاختصاصات العلمية؛ فالعلم رحِم بين أهل العلم، والرحم تقتضي نوعًا من الصلة وتبادل المودة، وفيما يتعلق بالجفاء فما أظن أنه وُجِد بين أئمة المقاصد وخَدَمة حديث النبي ؛ لأنّ وجهتهم واحدة، ذلك أنّ المُحَدِّث شُغله أن ينظر في الجرح والتعديل والتصحيح والتجريح، وأن يُعِدَّ المادة التي يشتغل عليها المقاصدي، أمّا المقاصدي فإنه ينظر إلى نصوص الشريعة من قرآن وحديث نبوي شريف فيستخرج من جملة ذلك مقاصد الدين، ويستدل أيضًا على المقاصد التي يستخرجها بهذه النصوص.
إذن، فعمل المقاصدي وعمل المحدث متكاملان يُكمل أحدهما الآخر ويبني أحدها الآخر، ليس بينهما تنازع على محل واحد ولا اختلاف على موضع واحد، هم لا يتنافسان ولا يتنازعان، وإنما عمل كل واحد منهما يُكَمِّلُ الآخر. ولهذا فبعض العلماء -رحمهم الله، إضافةً إلى ما كان لهم من المعرفة العميقة بعلوم الحديث- كانت لهم بدون أدنى شك معرفة واسعة جدًّا بعلم المقاصد باعتبارهم فقهاء وكونهم أصوليين؛ فالجمع بين المقاصد وعلم الحديث هو أجمل، فلا تنافر بين هذا وذاك أبدًا.
** بحكم إشرافك على مادة الحديث بمعهد تكوين الأئمة والمرشدات، كيف هو المستوى العلمي لهذا المعهد؟ وهل يركن ويطمئن المتلقي إلى خريجاته، وفيما إذا كان بإمكانهنّ إحداث إضافة إيجابية في الساحة الدعوية المغربية؟
- معهد تكوين الأئمة والمرشدات معهد تابع لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالمغرب، وهو تجربة رائدة في العالم الإسلامي، ولأول مرة في المغرب فتِح معهد لتكوين مرشدات ينخرطن في الشأن الديني على المستوى الرسمي، كان هذا التكوين قبل ذلك تكوينًا غير رسمي، والآن أصبح تكوينًا رسميًّا، فدعم التكوين الرسمي جهودًا أخرى سابقة والتي كانت قد بُذِلت في معاهد وجمعيات أخرى، وجهد الجميع مشكور.
المعهد هذه السنة أتمّ من عمره ست سنوات، ولا شك أنّ التجربة ما تزال حديثة، ومع ذلك فإنّ النتائج التي ظهرت ولو مع حداثة هذه التجربة دلت على أهمية هذا المشروع؛ لذلك أقول هذا من الأعماق أنا شديد الاقتناع بهذا المشروع، وانخرطت فيه انخراطًا كبيرًا فيما يتعلق بالمادة التي أدَرِّسُها، الطلبة الذين ينتسبون إلى المعهد من نوعية جيدة، ذلك أنه يشترط في الطالب أن يكون حافظًا للقرآن الكريم كاملاً، وأن يكون حائزًا على إجازة في جامعة من الجامعات، وأن تكون نُقَطه عالية حيث يكون نجاحه في كل السنوات بميزة مستحسنة على الأقل، ثم يخضع للانتقاء وبعد ذلك تكون هناك مقابلة علمية في القرآن الكريم لاختبار جودة الحفظ ومراعاة القواعد، ثم في المعلومات العلمية في مختلف المجالات التي درسوا فيها من فقه وحديث وعلوم القرآن ولغة وآداب وما إلى ذلك. فعلى كل حال، قاعدة الاختيار دقيقة، نفس الشيء بالنسبة للمرشدات إلا أنه بالنسبة لحفظ القرآن الكريم يشترط في المُرشِدة أن تكون تحفظ جيدًا على الأقل نصف القرآن الكريم أي ثلاثين حزبًا، مراعاة للجانب الاجتماعي على أن تُكمِلَ حفظ ما تبقي من القرآن الكريم خلال دراستها بالمعهد.
وعليه فإنّ هذا المعهد يبشر بكل خير وعطاؤه -ولله الحمد- ظهر، وغطّى مجالات العمل النسوي، فأغلب المرشدات ناجحات جدًّا في العمل التعليمي والاجتماعي، ذلك أنهنّ لا يخضن العمل التعليمي فقط بكل ما فيه من مشاق وما فيه من ضرورات، وإنما دخلن أيضًا في العمل الاجتماعي فانفتحن على السجون والإصلاحيات والمدارس والمستشفيات ومراكز الطفولة المتخلى عنها وما عدا ذلك، وأنا في الحقيقة -ومن خلال متابعاتي لهذه الأعمال- معجب بذلك وأهنئهنّ، وأغتنم هذه المناسبة لأهنّئ اللائي ظهرن في برنامج كان قد أعِدَّ من طرف القناة الثانية المغربية حول تجربة المرشدات خصوصًا في رمضان، وحاول مُقدم البرنامج أن يتتبع بعضهنّ في العمل فدخل معهنّ إلى السجون والإصلاحيات ليسلّط الضوء على هذا الجهد الضخم الذي قمن به هؤلاء المرشدات.
كما كانت هناك جوائز تُقَدّم للمتفوقات وقد مُنحت لإحداهنّ، وهذا إنجاز كبير أن يفوز هذا المعهد رغم حداثة تكوينه، وكانت هذه المرشدة من خريجي الدفعة الثانية للمعهد؛ فالعمل كبير والنتائج بنظري هي أكبر بكثير من تاريخ وجوده، ونفس ما قيل على المرشدات يُقال عن الأئمة، والآن عملية تأطير الحجاج وخدمتهم تتم منذ ست سنوات من خلال الأئمة والمرشدات، يعني جزء كبير من التأطير العلمي وحتى جزء من الإداري يتم من طرف هؤلاء.
** ما رأي الدكتور في ما ذهب إليه بعض المهتمين بالحديث وعلومه والذين يحيون من الحين إلى الآخر بعض المطالب القديمة الجديدة التي تحث على إعادة النظر في صحيحي البخاري ومسلم؟
* إعادة النظر من أي جانب؟! لا شك أن كتاب البخاري -رحمه الله- كتاب وضعه إنسان، وعمَلُ الإنسان كيفما كان عمل قابلٌ للمناقشة وقابل للإضافة، ولكن بالنسبة لي هذه القابلية للمناقشة لا يستطيعها إلا أهله؛ ولهذا فإنّ صحيح البخاري وصحيح مسلم -رحمهما الله- نوقشا ولكن من قِبَلِ عمالقة كبار رحمهم الله، ذلك أنّ الدارقطني -رحمه الله- ناقش البخاري في بعض الأحاديث واستدرك عليه أخرى، والحاكم استدرك على البخاري، سُلَمت له بعض الأحاديث ولم تسلم له أخرى، وابن مسعود الدمشقي فعل نفس الشيء، والإمام الأندلسي الجياني فعل نفس الشيء، ولكنها مناقشات علمية على مستوى عالٍ جدًّا من الرقي؛ فالإمام من هؤلاء يُبدي رأيه في القضية وقد يكون الحق فيها مع البخاري لا معه.
إذن هذا المستوى العلمي للنقاش دال على بلوغ حركة الحديث في العصر الذي وجد فيه لأعلى مستوياتها، حينما تكون مناقشة صحيح البخاري ومسلم مناقشة أهل الصنعة، فذلك مؤشر دال على بلوغ علم الحديث في تلك الفترة إلى مستوى عال، لكن فيما يتعلق بالخلط والمشاغبة وكلام غير أهل الاختصاص، فإنّ هذا الأمر لم ينقطع، ما تزال تظهر في الأمة الإسلامية أصوات نشاز تدعو بعضها إلى إلغاء السنة، وغير هذه من الدعاوي، فهذا نوع من الهجوم غير العلمي على عمل علمي متقن بشكل كبير، كل صنعة متقنة بالغة الإتقان لا تعدم الخصوم، والمشنعون ليسوا من أهل الاختصاص، والذي يناقش ويحترم رأيه هو المختص؛ لهذا إذا تكلم مهندس في علم الطب فإنّ الأطباء يصدونه، نعم يحترم رأيك لكن في مجالك الخاص، فحينما تقول لا رأي لفلان فإنّك لا تقمعه ولا تُصادر حريته، وإنما تقوم بذلك احترامًا للعلم.
وعلى هذا فإنّ هؤلاء الذين ترتفع أصواتهم بهذا اللغط ليسوا من أهل الاختصاص.. نعم إذا كان الإنسان مُحَدِّثًا كبيرًا وحافظًا ناقدًا وعالمًا بالعلل فهذا له الأهلية بأن يُناقِشَ البخاري رحمه الله، والآن ترتفع أصوات العلماء لا يهاجمون أصل الفتوى وإنما يهاجمون هؤلاء الذين يتطفلون على الفتوى، التطفل هو الذي يُهاجَم، وأما إذا كان الإنسان مجتهدًا فإنّ باب الاجتهاد ينفتح تلقائيًّا في وجهه.
كذلك الحال بالنسبة لعلم الحديث وكثير من العلوم الأخرى، كعلم الأصول لا يحق مثلاً للعوام أن يُهاجموا كتاب المستصفى للإمام الغزالي أو أن يهاجموا كتاب جامع الجوامع لابن السوكي وهي من أعظم كتب الأصول، أو لا يحق لإنسان لا علاقة له بالنحو أن يهاجم ألفية ابن مالك، كما لا يحق لمن لا يفقه مقاصد الشريعة ولا يعرفها مهاجمة العز بن عبد السلام أو الشاطبي أو العلامة ابن عاشور، فهذا أمر لا ينبغي أن يكون، وإنما إذا كان الإنسان مثل هؤلاء وعلى قدم هؤلاء ويمشي معهم على نفس البساط، فله الحق أن يُبدِيَ رأيه في القضايا التي يتناولها إما بموافقة أو مخالفة.
وعلى هذا، كان للبخاري -رحمه الله- عمل ينحصر في أمرين اثنين: ينحصر في تعديله لهؤلاء الرجال الذين روى عنهم في صحيحه، ذلك أنّ رواية البخاري عنهم تستلزم أنهم من العدول الضابطين، ثم العمل الثاني هو أنه صحح تلك الأحاديث أي قال إنها أحاديث متصلة ومن أهل العدالة والضبط رواتها، وأنها سليمة من كل شذوذ، وسليمة من كل عِلَّة، هذه قضايا علمية بحتة. ومن أراد تناول صحيح البخاري لا يعقل أن يطعن في مصنفه بحجة مخالفة العقل، وأنّه لا يصلح للعصر الذي نعيشه، وغير هذا من الحجج الواهية.
البخاري رجل صاحب صنعةِ وهو بارِعُ الإتقان فيها، من كان مثله -ولا أقصِد أنه سيصل إلى مبلغِ البخاري أو يُقارب ذلك، ولكن أقصد من يُشارِكه في صنعة الحديث، ويعرف قضايا علم الحديث، قواعد علم الحديث، ويقدر أن يدخل في التعديل والتجريح، ويقدر أن يعلل الأحاديث، ويقدر أن يُثبِت الشذوذ أو ينفِيَه- فيستطيع هذا أن يُبدِيَ رأيه في صحيح البخاري، ولا يصح كذا وكذا من العلل، وهذا هو العمل الذي صنعه العلماء الكبار، منهم من يعتقد أنّ الأمة الإسلامية تُقدِّس البخاري كما تُقَدِّس القرآن مثل هذا الكلام الفارغ... صحيح البخاري كتاب في غاية الدقة وفي غاية الإتقان، ولهذا يقول فيه العلماء إنه أصح كتاب بعد كتاب الله ؛ نظرًا لذلك التميز الذي تميز به الإمام البخاري رحمه الله.
** كلمة عن مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالرابطة المحمدية للعلماء.
- أسست الرابطة المحمدية للعلماء مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بمدينة العرائش، قصد الإسهام في المحافظة على الثوابت الدينية، وتدعيم الأمن الروحي للأمة، من خلال إبراز جهود أهل المغرب في خدمة الحديث الشريف، والسيرة النبوية المحمدية المطهرة عبر مختلف العصور.
وارتأت الرابطة كذلك أن تُحدِثَ مراكز متعددة للبحث، كل مركز منها متخصص في مجال من مجالات المعرفة، واختارت أيضًا أن تكون هذه المراكز موزعة أي لا مركزية؛ ولهذا يوجد مركز في الرباط لخدمة التراث، يوجد مركز في مدينة مراكش يُعنى بالقراءات، يوجد مركز في طنجة يُعنى بالصحابة والتابعين، يوجد مركز بتطوان للدارسات الأدبية واللغوية، وكان من نصيب المدينة التي أسكن فيها ومن تشريف الأمين العام للرابطة لها الدكتور أحمد العبادي أن اختارها لتكون حاضنة لهذا المركز، مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة، واختير لهذا المركز هذا الاسم الذي هو ابن القطان تيَمُّنًا بهذه الشخصية الكبيرة الفذَّة، فهو من أعظم علماء الحديث بالمغرب، وله كتاب رائد في العلل يسمى "بيان الوهَم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام"، والكتاب طُبِع وحققه الدكتور الحسين أيت السعيد.
والمركز سيعنى بطبيعة الحال بالدراسات والأبحاث في مجالين مجال الحديث ومجال السيرة، وسيعنى بتحقيق النصوص وإنجاز الأبحاث والدراسات، ستكون هذه الأخيرة مدعومة بالندوات وبورشات علمية وبمجلة سيصدرها المركز قريبًا إن شاء الله وعنوانها "الشفا"؛ تيمُّنًا أيضًا بكتاب القاضي عياض. وسنحاول أن تكون هذه المجلة في المستوى المطلوب، ستغلب عليها الدراسات المتعلقة بالحديث والمتعلقة بالسيرة النبوية العطرة... هذا بإجمال شديد ما يتعلق بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث والسيرة، وهو كما قلت تابع للرابطة المحمدية للعلماء.
** عند حديثك دكتور السرار عن مناشط المركز استعملت حرف "السين"، فهل المركز حديث عهد بالتأسيس؟
- نعم، المركز تأسس من حوالي شهرين فقط.
** هل يتمتع الدكتور بالحرية الكاملة في ما يقدمه من مادة خلال البرنامج الناجح "من سنن الرسول" الذي تبثه القناتان الأولى والمغربية؟
- أقول بكل صدقٍ وبكل حرية كاملة: أتمتع بحريتي التامة الكاملة فيما يتعلق بالاختيار، وفيما يتعلق بالتقديم، ولكن أنا أعرف أنّ هذه الحرية ينبغي أن تكون مضبوطة بالقيود العلمية؛ ولهذا فإنّ أي متحدث في أي مجال يتقيد بالقيود العلمية المضبوطة، إذا كنت تتحدث في مجال الأصول فتقيد بالقواعد العلمية المضبوطة، وهكذا في الحديث وفي الفقه.. فلن تجد أحدًا يمنعك من ذلك، وعلى هذا فالضوابط العلمية التي قررها العلماء أحاول أن أتقيد بها، ولي الحرية الكاملة في طريقة العرض وفي ما أختاره وأنتقيه من المعاني التي أريد أن يعرفها متابع البرنامج.
نتقدم بالشكر الجزيل لأستاذنا الدكتور محمد السرار على هذا الحوار الشائق والثري، سائلين المولى  أن يبارك فيه وفي جهده ومسعاه.
الدكتور محمد السرار في سطور:
الدكتور محمد السرار
- الدكتور محمد السرار من مواليد مدينة العرائش بالمغرب.
- رئيس مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالرابطة المحمدية للعلماء.
- عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة، جامعة القرويين - فاس.
- أستاذ زائر بدار الحديث الحسنية - الرباط.
- عضو المجلس العلمي المحلي بالعرائش.
- أستاذ مادة الحديث بمعهد تكوين الأئمة والمرشدات - الرباط.
- معد ومقدم برنامج "من سنن الرسول" الذي تبثه القناتان الأولى والمغربية.