جامعة «القرويين» في طور جديد مجلة الوعي الإسلامي

Libellés :



في نهاية أكتوبر الماضي كانت جامعة القرويين على موعد مع إنجاز حضاري يضاف إلى مسيرتها الممتدة عبر السنين، حيث تخرج فيها أول فوج يحمل شهادة العالمية في العلوم، وضم نحو 29 طالبا كرمتهم وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، و«الوعي الإسلامي» تسلط الضوء على تلك المنارة الحضارية التي أثرت العلوم الإنسانية على مر التاريخ.
جامعة القرويين بمدينة فاس المغربية أول جامعة عرفها العالم، أنشأتها فاطمة الفهرية (أم البنين) في عهد دولة الأدارسة في رمضان عام 245هـ، 30 يونيو 859م، بإذن من العاهل الإدريسي يحيى الأول.
وقد سبقت جامعة القرويين جامع الزيتونة بتونس والجامع الأزهر بمصر، بل سبقت جامعات أوروبا بنحو 191 عاما، حيث تأسست أول جامعة في أوروبا وهي جامعة ساليرن سنة 1050م في إيطاليا، ثم أصبحت معروفة بمدرسة نابولي، ثم تأسست جامعة بولونيا للحقوق، ثم جامعة باريس، وقد اعترف بها لويس السابع سنة 1180، ثم تأسست جامعة بادوا سنة1222م، ثم جامعة أكسفورد سنة 1249م، ثم جامعة كمبردج سنة 1284، وجامعة سالامانكا في إسبانيا سنة1243م، وكذا الجامع الأزهر، فقد بناه جوهر الصقلي سنة 360هـ، ولم يتخذ معناه الجامعي إلا سنة547هـ، فـ«القرويين» أقدم من الأزهر بـ125عاما، وأقدم منه جامعة بـ302 عام.

بدايات وأهداف

بعد بناء الجامع قام العلماء بإنشاء حلقات لهم فيه، وكان يجتمع حولهم العديد من طلاب العلم، وبفضل الاهتمام الفائق بالجامع من قبل حكام المدينة المختلفين تحولت فاس إلى مركز علمي ينافس مراكز علمية ذائعة الصيت كقرطبة وبغداد، ودخل «القرويين» مرحلة الجامعة الحقيقية في العصر المريني، حيث بنيت العديد من المدارس حوله، وعزز الجامع بالكراسي العلمية والخزانات، وتمحورت الدراسة في «القرويين» في مرحلة البدايات حول العلوم الدينية، ومع اتساع العمران بالمغرب وكثرة الوافدين إليها، تطورت الدراسة وتحول الجامع إلى جامعة، وشملت علوما أخرى تهدف إلى أغراض سياسية واقتصادية واجتماعية، فكانت هناك دراسة الفلسفة والطب والصيدلة والطبيعة والفلك والهندسة.

الأدوار الاقتصادية

مثلت «جامعة القرويين» مصرفا من مصارف الخير والإنفاق لعموم أهل المغرب وخاصتهم، ومن ثم توسعت وتطورت حتى صارت مؤسسة مستقلة عن خزينة الدولة، بل تنافس ميزانية الدولة، حتى إن الدولة اقترضت من خزينتها في كثير من الأحيان عند الأزمات الداخلية، وعند ظروف الحرب التي فرضت على البلاد، وعند بناء المرافق والجسور الحيوية، وفاضت أوقاف القرويين على سائر مساجد فاس، بل وصلت أوقافها الزائدة إلى المسجد الأقصى بالقدس، والحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة.

أدوار مجتمعية

وفي أوقات الضيق الاقتصادية لعبت أوقاف القرويين دورا تكافليا بارزا داخل المجتمع، فشملت مشاريع الإحسان والبر في كل النواحي الإنسانية، وفي ذلك يشير المؤرخ المغربي عبدالهادي التازي في كتابه عن جامعة القرويين إلى أن «قاضي فاس عندما شب الحريق في وثائق حجج الوقف سنة 723هـ، أمر بضم أملاك فاس كلها إلى القرويين، ولم يستثن من ذلك إلا من قدم شهادة تثبت الملكية من قبل جهة الوقف» وهو ما قام به أيضا السلطان أبوسعيد المريني والمولى الرشيد في أواخر دولة السعديين والمولى سليمان العلوي.. ومن تلك الأوقاف التي دعمتها «القرويين» بشكل مباشر أو غير مباشر؛ وقف للتزويج، ووقف للدواب المرضى، ووقف الحمامات، والمرستانات (للمجانين)، ووقف الموسيقى(الأندلسية)، وأوقاف العرائس (لتجهيز العرائس الفقيرات)، ووقف الأواني (للخدم الذين كسروا آنية من الفخار ليأخذوا بدلها سالمة)، ووقف الديون (القرض الحسن)، ووقف الطيور.

الأدوار العلمية

يمتد الإشعاع العلمي للقرويين منذ العصر الإدريسي إلى الآن، ولم يقتصر التدريس على العلوم الشرعية، بل اتسع ليشمل باقي علوم الحياة والعلوم العقلية والطبية، وانتشرت في أرجاء القرويين كراسي العلم وخصصت لها أوقاف، واعتبر كرسي العلم في جامعة القرويين ولاية حكومية عليا كالوزارة والقضاء والفتوى.
وتقدم الجامعة دروسها للجميع من طلاب وحرفيين، ومحاضرات يحضرها الرجال والنساء والأطفال، والولاة والقضاة ، وقد تخرج فيها عدد كبير من فقهاء المذاهب الفقهية السنية، مع التركيز على المذهب المالكي، لأنه المذهب الاجتماعي السائد في البلاد، وتعين هيئة التدريس بأوامر سلطانية، وتحصل على مرتباتها الرسمية من إدارة الحبوس «الوقف»، وكثيرا ما يتدخل السلطان لتحديد البرامج الدراسية واستبعاد المواد التي لا تلائم التوجه الديني السلطاني، ولم ينحصر الإشعاع العلمي لفاس عامة وللقرويين خاصة على الذكور، بل نبغت عالمات وأديبات وسياسيات وفقيهات وقارئات ومحدثات.

الأدوار السياسية

لم يقتصر دور جامعة القرويين في تيسير العلوم بأنواعها، وإنما كانت مهد الثورة على الظلم ومنطلق الجهاد ضد المستعمر، وهو الواقع الذي دفع الجنرال الاستعماري الفرنسي «ليوتي» إلى نعتها بالبيت المظلم، وكان يتساءل حسب المصادر التاريخية: «متى سيغلق هذا البيت المظلم؟»، لأن جامع القرويين أفشل مخططاته في التفريق بين العلماء والسلاطين، وبين علوم الدين والدنيا بالمغرب، كما أن الاحتجاجات وتعبئة الفدائيين للجهاد تنطلق شرارتها من منبر القرويين.

مشاريع الإصلاح

عمل الاستعمار الفرنسي على محاربة جامعة القرويين وبعدما فشل في ذلك لجأ إلى محاولة احتوائها، وإجهاض دورها بشتى السبل، وخطط للتعليم الذي يخرِّج أناسا يؤمنون بمفاهيم الغرب ويحتقرون ثقافة الأمة، ويقول R.Gaudefroyطرحت قضية إصلاح القرويين بمجرد إقامة الحماية الفرنسية على المغرب، وبداية اهتم به المثقفون المغاربة لأنهم رأوا فيها نهضة للدراسات الإسلامية، واستهدفت فرنسا من إصلاح القرويين تجميع طلبة المغرب وممارسة نوع من التوجيه الروحي عليهم بكل سهولة، ولهذا فإنه حينئذ لا يمكن أن يسمح للمغاربة بإنشاء جمعيات للتعليم الإسلامي الحر، الذي تتعذر مراقبته، كذلك سعت فرنسا للظهور بمظهر المحافظ على التراث والعلوم الإسلامية». واستهدف الفرنسيون من ذلك تحقيق نتائج على الصعيد الداخلي، منها أن أبناء الطبقة الميسورة سينجذبون إلى دروس القرويين، ويلازمون فاس بدل ارتياد جامعات إسلامية خارج حدود الوطن.
ونظرا لما تضمه جامعة القرويين من جميع أنواع التعليم من الابتدائي إلى الجامعي، سعى المستعمر لبناء تعليم جامعي مواز للقرويين؛ فتم تأسيس معهد عال تحت اسم «المدرسة العليا الفرنسية البربرية» سنة 1914م ثم تحول سنة 1920م إلى «معهد الدراسات المغربية العليا» حيث احتلت دراسة اللهجات البربرية والإثنوغرافيا والفلكلور المغربي مكان الصدارة فيه، وقد تحول هذا المعهد إلى كلية للآداب والعلوم الإنسانية بعد الاستقلال.
ورغم ما أحدثته الحماية الفرنسية من إحكام قبضتها على جامعة القرويين وأساتذتها والتحكم في إدارة الجامعة وتسييرها، بعد أن استشعرت الدور الخطير الذي تقوم به القرويين، فأنها لم تستطع القضاء تماما على هذا الصرح العلمي الشامخ - وإن نجحت بوسائلها الخبيثة في احتوائه وعزله وإضعاف دوره، وقبل أن يخرج الاستعمار الفرنسي من المغرب سنة 1956 أنشأ مدارس للتعليم العصري لمنافسة القرويين وإضعاف دورها في بناء شخصية مغربية محافظة على أصالتها وعروبتها.

غرس الروح الوطنية

وعلى النقيض من تلك المحاولات التغريبية سعت الحركة الوطنية لإصلاح جامعة القرويين برؤى وطنية قد انبثقت من حلقات جامعتي القرويين وابن يوسف، فكانت دروس الزعيم علال الفاسي تحمي الروح الوطنية، وتحاصر الأفكار الاستعمارية، وقد عرفت هذه الجامعة تحولات عميقة بعد الاستقلال، فبعد الاستقلال مباشرة تم إدخال بعض الإصلاحات على نظام هذه الجامعة بهدف تأهيلها لتؤدي دورها العلمي، وفي سنة 1963م صدر ظهير تم بموجبه تعزيزها بثلاث كليات تابعة لها وهي: كلية أصول الدين بتطوان، وكلية اللغة العربية بمراكش، وكلية الشريعة بفاس، وفي سنة 2004 تم إلحاق نظام التعليم العتيق بالتعليم الرسمي العام.

ذخائر المعرفة

وتعتبر مكتبة القرويين من أعرق مكتبات العالم العربي، إذ تضم مخطوطات يعود تاريخ كتابتها إلى القرن الثامن الميلادي، كما تضم مخطوطات فريدة بعضها بخط مؤلفيها، من بينها مؤلفات لابن خلدون وابن طفيل وابن رشد، ومؤلفات مختلفة لبعض ملوك المغرب، ففي جامع القرويين كان يدرس - إلى جانب الفقه والتفسير - علوم الرياضيات وعلم الفلك وعلوم أخرى مشابهة، وقد جلبت أو نسخت كل المؤلفات التي تعالج هذه العلوم مما زاد رصيد المخطوطات في المغرب، وبلغ عدد المخطوطات في القرويين نحو 30.000 مجلد ومخطوط، ومن أبرز نفائس خزانة القرويين أجزاء من موطأ مالك (ت179هـ)، كتبت لخزانة علي بن يوسف بن تاشفين المرابطي على رق الغزال، وكتاب سيرة ابن إسحاق (ت 151هـ) كتب سنة 270هـ، وهو أقدم ما يوجد بالخزانة، والمصحف الأكبر الذي حبسه السلطان أحمد المنصور الذهبي على الخزانة عند تدشينها سنة 1011 هـ، كما يوجد بها كتاب العبر لابن خلدون ( ت808 هـ) الذي ألف باسم السلطان أبي فارس المريني، وأهدي إلى خزانة القرويين في صفر من عام 799 هـ.

مستقبل القرويين

يقول وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربي عبدالكبير العلوي المدغري - بمناسبة تخرج الدفعة الأولى من طلاب الشهادة العالمية في نهاية أكتوبر 2008: ستسعى «القرويين» خلال المرحلة المقبلة إلى تأهيل علماء متمكنين من علوم الشريعة للقيام بالدعوة إلى الله والوسطية والاعتدال والتسامح والمرونة، وبالتالي سيشكلون درعا واقيا للمجتمع، وكذلك فسنسعى لتقوية مناهج ومسار التعليم الأصيل بالجامعة ليكون جسرا ما بين التعليم العتيق والتعليم العصري، ومن المتوقع أن تصدر قريبا عدة مراسيم تنظم الدراسة في جامعة القرويين في جميع المراحل ليكون هذا النوع من التعليم منسجما مع العصر.

0 commentaires:

إرسال تعليق